أحدث الأخبار
السبت 23 تشرين ثاني/نوفمبر 2024
دماء العرب ومحاكمة عادل إمام!!

بقلم : سهيل كيوان  ... 09.02.2012

جوهر القضية في بلاد العرب هو الحرية، وبالذات حرية العقل، فالعقل أدهش الخالق عندما خلقه'ما خَلقت خلقًا أعجب إليّ منك، وعزتي وجلالي لأكمّلنك فيمن أحببت ولأنقصنك فيمن أبغضت' الحديث الشريف'، حرية الفكر وتشعّبه وعدم تسطيح الأمور هي تكريم للعقل واحتفاء به، فإذا تم انتقاص حرية الفكر تم تقزيم هذا المخلوق المدهش، أما إلزامه باتجاه تفكير أحادي فإنه يحوّله إلى عضو مثل سائر أعضاء الجسد، كاليد والأصبع مع احترامنا للأصابع مع حفظ الألقاب، حتى القلب رغم عظمته وأهميته ورغم أنه 'يعشق كل جميل'إلا أنه لا يرقى إلى مستوى الدماغ، بل إن الطب الحديث يعترف بموت الإنسان عندما يتوقف دماغه عن العمل حتى لو بقي قلبه خافقًا، الدماغ هو الآمر الناهي وهو المبدع الذي يخطط ويفكر ويتخيل ويحلل وما بقية الأعضاء سوى منفذي أوامره.
تشغيل العقل ومنحه الحرية القصوى هما أسمى آيات العرفان والحمد للخالق، وممنوع لأي مخلوق مهما علا شأنه السياسي أو الاقتصادي أو الديني أن يتدخل بين العقل وخالقه، أو أن يحاول تعطيل هذا المخلوق عن عمله ومهمته في التفكير، فقد خُلق بالضبط لأجل التحليل والإبداع وطرح الأسئلة.
عندما نحاصر العقل ونقمعه ونلزمه على التفكير باتجاه ولون واحد فقد أسأنا لهذا المخلوق الذي أدهش خالقه، وحرفناه عن مهمته وكبتناه، إنها تشبه عملية سمل للعيون، بل أفظع بكثير، فما هي فائدة عقل لا يفكر ولا يبدع، ما فائدة عقل لا يطرق الفضاءات الجديدة ولا يطرح التساؤلات الكبيرة الأساسية، ما فائدة عقل يأخذنا إلى حيث مرت غيره وقبله ملايين العقول بألوف السنين!
حرية العقل تترجم في السياسة إلى شيء اسمه الديمقراطية، وهذه تعني حق الجميع بالتفكير والتعبير دون خوف من قمع وبطش أو انتقام، الأقلية تحترم شرعية الأكثرية لأن الأكثرية صارت أكثرية بفضل وجود أقلية قادرة على التعبير والتفكير وتحاول الإقناع برأيها، الأقلية ليست عرقية أو دينية فحسب، بل كذلك الأقلية الفكرية، أي تلك التي لا يتفق تفكيرها مع الفكر السائد في قليل أو كثير من المواقف والمعتقدات، فإذا حُرمت الأقلية من حقها في التعبير عن فكرها الذي ينتجه عقلها فقدت الأكثرية شرعيتها وبات حكمها تعسفيًا دكتاتوريا. وهذه الآفة، أي الدكتاتورية غير مقتصرة على طيف سياسي أو عقائدي أو قومي بعينه، قد تظهر باسم البروليتاريا التي تحركها مجموعة متنفذة في الحزب الحاكم الأوحد، وقد تظهر باسم القومية والعروبة كما هوالحال في سورية اليوم، فالمواطن يُقمع ويُذل ويمثل بجثته كأنه ضفدع أو دجاجة باسم سلامة ووحدة الوطن العربي، ومن يحاول أن يمس مصالح الطبقة المتنفذة يتهم بالخيانة والتآمر على سورية والقضية الفلسطينية وتقسيم العراق وتفتيت مصر والخ من الخزعبلات التي تقيأتها شعوبنا العربية، وقد تظهر الدكتاتورية في مكان آخر كالسعودية باسم الدين الحنيف، فالمعارض يسمى زنديقًا خارجًا عن طاعة أولي الأمر، وهي تهمة قد تصل عقوبتها الإعدام، ولكن لو كان هذا 'الزنديق' مناصرًا للنظام لاعتبرت زندقته إبداعًا واجتهادًا.
الشعوب العربية دفعت وتدفع الدماء والأرواح ثمن حريتها، وتفاءلت خيرًا بسقوط بعض الأنظمة القمعية من طراز ما، ولكن ليس لتستبدلها بقمع من نوع جديد يحمل ختم (الحلال)، أي شرعنة القمع باسم الدين، بعدما كان باسم العيب وإهانة رموز الدولة وسلامة الوطن.
قتل الأرواح بهذه الوحشية الجارية في الوطن العربي لا ينشأ صدفة ودفعة واحدة، بل هو نتيجة تراكم كمّي منهجي طويل من التحريض على المختلف، على الآخر، فالاشتراكي أو الشيوعي اتهم بالكفر واستيراد الأفكار الأجنبية، والقومي المعارض اتهم بتلقي الدعم الخارجي والتآمر، والمعارض باسم الدين تمّت شيطنته فهو إرهابي ومتأسلم وظلامي، وحتى لو نشأت معارضة من حزب النظام نفسه سوف يجدون لها تسمية ما، ويشيطنونها بأي طريقة ممكنة. وهكذا عندما تحين لحظة الحقيقة أو الصفر، فإن هذا التحريض المتراكم تجاه المختلف يتحول إلى عنف وإرهاب يصل حد القتل بدم بارد، ولولا التحريض المسبق على المعارضة السورية واتهامها بالخيانة لما وصل الأمر الى هذا الحد من الدموية، ولما قام محاور في (الاتجاه المباكس) عن كرسيه أمام الملايين لمهاجمة معارض سوري باليدين وهو يتخيل أنه يقوم بعمل رجولي وبطولي يؤجر عليه من قبل النظام!
أما عادل إمام فسواء كنا نحب أو لا نحب فنه، وسواء كان عادل إمام منافقًا لنظام المخلوع أو غير منافق، وسواء أخطأ أو لو لم يخطئ في موقفه من ثورة يناير المصرية، فمحاكمته بسبب عمل فني هي دكتاتورية من نوع جديد، السلفيون يريدون وضع خطوط حمراء أمام حرية الإبداع وهم بهذا يبدأون بمحاربة المعارضة ومحاكمتها حتى بأثر رجعي بتهمة الإساءة للدين، وهي إشارة لبداية مرحلة جديدة سيكون فيها الفن تحت رحمة هذا المحامي السلفي المتفيهق أو ذاك، محاكمة عادل إمام بحجة إهانته للمعتقدات الدينية لا تختلف عن تكسير أصابع علي فرزات بشيء أو ذبح فنان من الوريد إلى الوريد غنى ضد النظام، لأن هذا التحريض نواة للعنف ولا يختلف عن طعن نجيب محفوظ بشيء. وهو إعلان عن خفض سقف حرية الإبداع، عادل إمام انتقد في أعماله الفنية كل الحياة المصرية، انتقد 'الزعيم' بذكاء كبير وبحدة، وانتقد الحركات الأصولية المتطرفة التي قتلت السائحين في مصر، ويعرف كل مصري أن أعداد المتاجرين بالدين ومظاهره لا تحصى في مصر والعالم العربي، وأن ملايين البشر يتصرفون بغير ما يعتقدون، فراقصة الليل التي ترتدي الجلباب عند خروجها إلى الشارع وتغطي شعرها بعدما تكشف كامل جسدها للجمهور هي ظاهرة موجودة، وعن بائعات الهوى المتجلببات فحدث ولا حرج. وشخصيات مرجان أحمد مرجان، كانت وما زالت موجودة وقد تزيد والزمن والعمل فقط هو الذي يقرر.
عادل إمام لم يأت بشيء من جيبه الخاص، فقد نقل جوانب من حياة المصريين وكثير من العرب إلى الشاشة والمسرح، الشعب المصري والعربي بكل أطيافه استقبل عادل إمام بمحبة وهو ليس منافقًا بهذا، لأن إمام ليس حاكمًا ولا يعاقب من لا يحبونه، باستثناء بعض المتشددين الذين شعروا أن عادل إمام يقصدهم في بعض أعماله، وحتى الآن يعتبر إمام ملك وزعيم الكوميديا على مستوى العالم العربي، قد لا يرى البعض أنه ساخر بهذا القدر، بل قد يرى البعض فيه ابتذالا، وصحيح لم تعجبنا مواقفه من الثورة وعلاقته بالمخلوع حسني مبارك، ولكن ليس من حق أحد أن يحاكم فنانًا على إبداعه، لأنه مؤشر خطير.
من حق الفنان أن يبدع الأمور كما يراها من وجهة نظر فنية، وهو لم يهزأ بالمعتقدات الأساسية بل هزئ ممن يهزأون بعقول الناس، ومستغلي الدين والمتسترين به، وهم الذين لا يريدون للعقل العربي والمسلم بشكل خاص أن يشتغل إلا على مقاسهم.
الشعوب العربية دفعت وما زالت تدفع دماءها لأجل الحرية وهذه الشعوب ليست مستوردة من كوكب آخر، فالإسلام هو عصبها وعقيدتها الأساسية مع احترام الأقليات الدينية الأخرى، ولكن هناك فرقا بين احترام المعتقد وبين تقديس وجهات نظر السياسيين التي (فيها نظر) وتحويلها إلى قوانين مفروضة على مجتمع يدفع بالأرواح الغالية ثمنًا لحريته وعلى رأسها حريته الفكرية وإبداعه أولا وقبل كل شيء.