بقلم : فراس حج محمد ... 16.11.2011
القصيدة مدخل فاشل للأنثى
تزدحم في مخيلتي تجارب الشعراء العرب القدماء والمعاصرين ممن كتبوا شعرا في المرأة متغزلين أو مشببين بها، فألاحظ أن تلك التجارب على غزارتها وتنوع أطيافها وحيوية الروح التي يستكن بها، إلا أنها لم تحقق على الصعيد المادي الملموس لكتابها أي نصر معنوي على تلك المرأة التي اشتهتها قصائدهم، ومال إليها نغمهم ألحانا موجعة مرة.
ولطالما استوقفتني تلك القصائد، وخاصة ظاهرة الغزل العذري، وحاولت أن أفهم ما يدور في خلد الشاعر من معنى خارج حدود اللفظ والمبنى لأبحث في وجدانه الجمعيّ مثلا، أو في السياقات الفكرية النسقية والاجتماعية، فتصدمني تفسيرات عدة، لم يقنعني منها أي تفسير قديما وحديثا، وما زالت هذه الظاهرة في أخذ ورد بين الكتّاب والنقاد، وهي بالفعل ظاهرة تبحث عن تفسير ما.
وأحاول في هذه الوقفة أن أقنع نفسي فيما سأحاوله من وهم التفسير، ربما، حول هذا المنجز الإبداعي الكبير، الذي أطلقت عليه المدونة التاريخية الأدبية الغزل العذري.
تقوم ظاهرة الغزل العذري بداية على أساسين مهمين من وجهة نظري، يتمثل الأول في أن تلك الظاهرة استفادت من تجارب عربية سابقة، وبنت عليها وعلى نسقها منجزها الإبداعي هذا، وأعني بذلك قصائد جمهرة من شعراء ما قبل الإسلام عرفوا باسم المتيمين، ولعل أشهرهم الشاعر الفارس النبيل الخلق عنترة بن شداد العبسي، فقصته مع ابنة عمه مشهورة ومعروفة.
وأما الأساس الثاني التي تستند إليه هذه التجربة هو اقتران كل شاعر ومحبوبته بمجموعة من القص الشعبي الذي يحاول فيه واضعوه أن يبرهنوا على صدق التجربة الإبداعية، ويحشدون لذلك كل مقدرة إبداعية في فن القص، وتشابكها تشابكا عجيبا مع قصائد معينة، فلا تدري وأنت تقرأ القصة أيهما دليل على الآخر، فقد تمازجا معا بجدلية التآخي، فصارت القصيدة تدل على قصتها، والقصيدة والقصة تدل على شخوصها، فتشكلت بذلك ظاهرة مميزة من الشعر والقص والتاريخ المعدل ليقوم شاهدا على ذلك الكم الوفير من الإبداع وتصوره في شكل جديد، ليس مقصورا على اللحن، وإنما تدعمه القصة التي تمدها شخصياتها الحقيقية بألق الحضور وأمل الواقعية.
هكذا برأيي تشكلت هذه الظاهرة بشقيها من الشعر والنثر، ولكن ما الدافع وراء انحيازها لتلك المقولات التي نادت بها تلك القصائد على ألسنة شعرائها، من عفة وألم ووجد ومكابدة، والحرص على المحبوبة؟ ولماذا ماتت تلك الظاهرة فيما بعد العصر الأموي، ولم تلاق نجاحا عند الشعراء في العصور اللاحقة؟ ولماذا يصرح الشعراء بأسماء محبوباتهم إذا كانت التقاليد الاجتماعية تحرم على الشاعر ارتباطه بمحبوبته إذا تغزل بها أو تشبب؟ كل تلك الأسئلة مفتوحة تحتاج إلى إجابات لعلني أستطيع أن أقول فيها شيئا.
لقد بينت في بداية هذا المقال أن ظاهرة الغزل العذري قد تأثرت بتجارب الحب العفيف عند شعراء ما قبل الإسلام، وضربتُ لذلك مثلا شعر عنترة العبسي في ابنة عمه عبلة، وهذا التشابه بين الظاهرتين في القصة وأسلوب الشعر والمضامين الفكرية، يجعل الظاهرتين ظاهرة واحدة، وقد ألمح إلى هذا التشابه بعض الدارسين سابقا دون أن يحاول بيان أنهما ظاهرة واحدة مكتفيا بالتشابه، وعليه فإن اجتراح شعراء العصر الأموي هذا النوع من الشعر إنما جاء تقليدا أو متابعة لمنهج فني يتسق مع رؤياهم الفنية والفكرية، كما قلّد شعراء آخرون في عصور لاحقة شعراء ما قبل الإسلام في الوقوف على الأطلال، وليس شرطا أن يقف الشاعر على الأطلال ليبدأ قصيدته بها، كما أنه ليس شرطا أن يحب الشاعر محبوبة ليتعذب في حبها، ويُحرم منها، إنما هو منهج شعري خالص، ليس غير، مع قناعة العربي في مسيرة شعره الطويلة أن الطريق إلى قلب المرأة لم يكن القصيدة، بل هناك مواضعات اجتماعية صارمة تحتم عليه أن يؤمن بها حتى يفوز بتلك الأنثى، فقد قررت المدونة الشعرية الغزلية على أن القصيدة مدخل فاشل للمرأة، لأن الشعر في العادة يقوله الشاعر كما تقوله المرأة فما التميز لأن تكتب شعرا في فتاة ربما تكون هي أشعر منك، وقد أثبتت كتب الأدب كثيرا من تلك المواقف التي انتصرت فيها الأنثى شعرا على الرجل الفحل.
إن هذا التفسير قد يبدو منطقيا إذا ما حاول المرء تتبع حركة الشعر العربي في عصوره كافة، واسمحوا لي بأن أذكر القارئ الكريم بظاهرة الغزل الماجن، أو ظاهرة التغني بالمذكر في العصر العباسي، أو ظاهرة الشعر الصوفي، فكلها من وجهة نظري مذاهب في القول لا تتعدى إلى غير تلك الغاية.
وبهذا التفسير فإن ما قيل عن علاقة الشاعر بمحبوبته والقصة المنسوجة حول تلك العلاقة إنما هي ابتداء تطور في ظاهرة المتيمين، وثانيا كما سبق وقلت، تعطي الشعر بعدا شعبيا أكثر قربا إلى الذائقة الفنية الجماعية، والتي تطور مفهومها فيما بعد، في العصر المملوكي، إلى ظاهرة السير الشعبية، وكانت عبارة عن قصص شعبية متداخلة مع الشعر، فكانت أداة للهو الناس وسهرهم ومتعة حياتهم بعد طول عناء ومشقة، وإن حملت بعض المضامين السياسية، تبعا للعصر والواقع واللحظة التاريخية، ولعلي أعود إلى هذه النقطة في مقال آخر.
وبذلك فلعل تفسير حرمان الشاعر من المحبوبة، كما تقرره بعض المرويات، لعله آت من القصة المنسوجة، وليس شرطا لازما في الواقع، واللبس الحادث في تقريرها واقع مِنْ أنّ مَنْ درس هذه الظاهرة اعتبر القصة رواية تاريخية صحيحة، وليس مجرد قصة من نسج الخيال.
وأما عن ادعاء موت هذه الظاهرة في الأدب العربي بعد ذلك، فإن هذا القول يحتاج إلى دليل قوي ومسح شامل للمدونة الشعرية العربية في عصورها كلها، فما زال الشعراء يكتبون شعرا عفيفا خالصا من كل شائبة، ولكن ربما لانفصال الشعر عن القصة فيما بعد، ولتطور وسائل التعبير، وظهور المقامات قديما والقصة والرواية والمسرحية حديثا، أدى إلى انفصال الشاعر عن القاص، وافترقا طريقا، واستقل كل منهما بمنهج وأسلوب تعبير، وبذلك فإن هذا ليدل على توالد الأجناس بعضها من بعض، فالجنس الأدبي كالمادة لا يفنى ولا يموت، ولكنه يتطور ويظهر في أشكال أخرى تستدعيها الظروف والأحوال والسياقات التاريخية والاجتماعية والأنساق الفكرية.