بقلم : د . فهمي الفهداوي ... 17.9.08
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
وتحية طيبة لكم ملؤها التبجيل والاحترام
وأخصّكم أيها الكرام بأطيب كلمات التكريم وأحسن مقال المقام
فأنتم صفوة الصحبة النبوية والسيادة الذهبية
وأنتم أهلنا الأولون في الدم والاعتبار
ولنا فيكم ذكرى وسيرة واستحضار ...
أكتب إليكم يا عقال الرأس في العروبة ...
ويا حزام الشكيمة في الإسلام ...
ويا أدلاّء الإنسانية على معاقل الحرية والحق الفسيح ...
أكتب إليكم وأنتم شارة الدرب الأولى في الكفاح ضد قُبح الآدميين في الحياة ، وضد مُدنسي فطرة الإنسان بالمخازي والسلوك الشاذ .
أكتب إليكم وأنتم هُداة الشعوب وحُماتُها ، وبُناة الحواضر الجنان والأوطان السعيدة ، والداعون جهارا نهارا بأنْ لا كبير إلاَّ الله الملك ذو الجلال والإكرام ، فدانت لدعوتكم الأقاصي والدول والبحار وما وراء الصحاري ، سجودا واحتراما واتساقا ، وجرت رسومها على أيديكم عدلا وحقا واحتسابا ، فكنتم أهل الخلافة والخلفاء القدوة على مرّ السنين والحياة الدائرة .
أكتب إليكم وأعرف بأنَّ المدى بيننا اليوم أبعد ما يكون ، والهوة أوسع من أن تُردم من خلال التمنيات وتجريد الانتماءات من ضوابط الالتزام الصميمي بها قولا وفعلا ، لكننا أحوج إلى مشارفتكم على أحوالنا وتقويم انكساراتنا واعوجاجاتنا ، وتجبير خواطرنا وشحن بطارية ضمائرنا ، التي ذابت في محاليل خالية من التنشيط والتمييز والبصمات والوقدات ، فغاصت مديدا في الأباطيل وتكورت حثيثا عند أعتاب الرذائل .
فأنتم أهل الاستدراك والنظر ، وأنتم معين المحاكاة في العبرة والقدوة وإختطاط الأثر ، وسيرتكم التاريخية في الشريعة والعقيدة والسياسة والحكم وتدبير المصالح الشرعية ، شيبت روحي عظمة صفحاتها ، وجعلتني سياساتكم وقراراتكم في شأن الدولة والأمة والمصير العظيم ، متندرا بغيركم من قادة تاريخنا وزماننا في عصرنا الراهن ، فيما يسوسون ويقرّون ضمن هذا الشأن المماثل ، إذْ لا مجال البتة حتى لالتماس مشابهة ضئيلة واحدة بين حزمكم المشهود وانحلاله فيهم ، وعزمكم المضمون ووهنه فيهم ، وشتان بينكم قادة هُداة وبينهم قادة جُباة ...!
لقد تمزقت البلاد دفعة واحدة في أمر دُبر بليل الخيانات ، ليدخل علينا بنو الأصفر بهجمة واحدة ، وبوجوه ثقافية متلونة مثل فرجة بهلوانية أو سيرك ، فتفرقت القاهرة وتراجعت عن وشائجها مع البحرين ، وتزحزحت دمشق وتباعدت الشقة بينها وبين مكة وتغربت الزيتونة عن اليمن ، وشهقت الأحواز وانفلقت جراحها على مذبح الإسكندرونة ، وانقطع البريد الوحيد بين بغداد والكوفة عن فلسطين التي تيتَّمت باحتراق خبزها وتسوّر اليهود الجُدد بيت مقدسها ، حتى دخلت الأمة تراقب حروب النازية مع الحلفاء ، وثمة نيران وحرائق تأكل في ثوب العرب وتطال مساجد الأمة في صلواتها وشبابيكها وارتفاعاتها .
وخلال هذا الشوط الشائط في أزمة الأمة عقب تشظيها وتحولها من مدن ودويلات كانت متداعمة فيما بينها ، إلى دول وإمارات وممالك مستقلة متماحكة وعدائية مع بعضها البعض ، لصالح حساب الأباطيل الاستعمارية التي نحتهتا سكاكبن ( سايكس بيكو ) ومسالخ آل صهيون ، انخرط أبناء الأمة وعقب عقود متتالية ، متشرذمين متهافتين حكاما ومحكومين ومثقفين وفقراء ، حاملين صور ماركس ولينين والشيخ محمد عبدة وسعد زغلول وحسن البنّا وطه حسين وستالين وترومان وجون واين وشارلي شابلن وموسوليني وهيروشيما والحسيني والمختار ورشيد عالي الكيلاني ، وأصبحت موسكو وبرلين وباريس ولندن وواشنطن والفاتيكان ، المحجَّ البديل للناطقين بلغة الضاد ، وللبيت ربُّ يحمية .
ثم جاء عبد الناصر حاملا قوس العروبة في أرض الكنانة ، متخليا عن سهام المسلمين ، على أمل استجماع الأمة على الوحدة الجديدة التي تشمل السياسة فقط دونما عقيدة جامعة ، فذوت شمعته بخسارة العرب لفلسطين في حرب 1967 ، مع كل التقدير للاجتهاد الذي كان يحمله ذلك القائد الفذ في إطار الثورية والتأييد الجماهيري ، وكان عليه بدءا أن يستفيد من نجاح تجربة القائد المسلم صلاح الدين الأيوبي في جمع الأمة وتحرير البلاد ، ولست أدري لماذا غابت عن ذهن عبد الناصر وإستراتيجيته القتالية ، فرصة التزود من منهجية النصر التي تحققت فيما سبق عبر منظومة القيم التي اعتمدها صلاح الدين في حطيّن .؟
واليوم ونحن في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين ، تدفعنا مآسينا ودماراتنا وخساراتنا المريرة ، نحو الحنين إلى خسارات أقل ومرارات أقل وإنكسارات أقل ، ففلسطين خرجت من العهدة العربية ، ولم تعد قضية تحريرها ملزمة عند حكام الدول العربية الإسلامية ، والأمين العام السيد عمر موسى غارق في سباته الطويل عما تجتاح الأمة من الجوائح والكوارث البشرية ، ومن المحتمل في حال خروجه مما هو فيه ، سيدعو عاجلا لتحويل الجامعة العربية إلى القطاع الخاص ، والعراق أرض السواد بات أرضا للدماء والسحب الحمراء ، كونه محتلا من قبل أمريكا – إمبراطورية بني الأصفر، القادمة من خلف جغرافية الغرب ومحيطاتها ، التي نشأت حديثا بفعل الاستحكام على الثروة والقوة والسلاح ، وليس لها أخلاقية إنسانية في تعاملها مع عالمنا إلاّ من خلال الدماء واقتراف الخطايا تلو الخطايا ، ورئيسها الحالي جورج بوش يدَّعي كونه مكلفا من قبل الربّ بغزو العراق .
لقد أصبحت ديارنا على تفرقها كما أوضحنا ، ديارا أكثر تفريقا وتمزيقا من ذي قبل ، إذْ مع كثرة انقياد حُكّامنا لبني الأصفر ولأمريكا تحديدا ، فقد دخلت علينا العولمة الأجنبية ، وهي ديانة جديدة قائمة على التجارة وربح المال وفوضى السقوط في شرك الاقتصاد ، ولسطوتها قدرة عجيبة في اختراق الحصون والأسيجة غير المحروسة بالأمناء الأنقياء ، وإنَّما برويّبضة الغفلات والتسلُّقات والانتهازيات ، وبتنا نسمع أبواق العولمة تنطق باللعنات والشتائم حيال تاريخنا الأبيض ، الذي شيدتموه لنا بعرق جبينكم الناصع ، وتطاولت تلك الأبواق لتنال من شخصية رسول الأمة الكريم محمد ، على شكل دفعات ودفعات ، سواء من داخل الفاتيكان والبابا ، أومن قبل بعض دعاة الغرب والمراكز العلمية والبحثية المتخصصة بمجال مكافحة الإسلام وتهديم سلطته المعنوية في النفوس والعقول المنتمية إليه .
لكنَّ الأنكى من عداوة الأعداء ، ذلك الذي يجري بيننا وفي ديارنا بأنفسنا ، حيث صرنا أحزابا وميليشيات وفيدراليات ، يراد أخذها طعما وبالاستيلاء من قبل ثلة المتنفذين المستقّوين علينا بحماية الغزاة والمحتلين وصفقات الريبة ، وما تريده أمريكا الظالمة من مُسخرات اللصوصية وسرقة ثروات الأحرار والشعوب الرافضة لها والمقاومة لجبروتها ، وحُكّامنا صامتون ويشكلّون نسيجا مشتركا متخاذلا إزاء تلك المُسخرات ، عبر متوالية من الأنظمة الناشئة كمصانع وصنائع فاقدة لحرية الإرادة ومتخلية عن نقط الحياء والغيرة .
لدينا اليوم أحزاب إسلامية صديقة جدا لأمريكا التي تحتل الديار ، ولدينا اليوم ثروات هائلة وممتلكات من الزيت والبترول أمواجا أمواجا ، ولا نحصل على قنينة منها بملء إرادتنا ، ونعمل أُجراء عند الغرباء في أرضنا وممتلكاتنا ، ورواتبنا يدفعها إلينا جنود الاحتلال محسوما منها تكلفة الغزو ، والكثير منّا صار مُخبرا ضد أهله وأبناء جلدته ، ويبيع حياتهم ودمائهم دون وجع قلب إلى الغرباء المُتحكّمين بالسجون والحياة ، ويبارك لنا في هذا المسعى الشاذ والحراك المعيب علماء دين وفقهاء شريعة من شتى أنواع العمائم ، ويدعون لنا بالفلاح والنجاح ، ويشجعون شباب أُمتّنا على العمل في سلك الزبالين والمنظفين والخدمة ، كأجراء عند جنود الاحتلال عوضا عن البطالة والعطالة المبثوثة فينا .
لقد برز دور الفرس في التدخل ضمن مُقدارتنا العربية والإسلامية ، ولهم اليوم وقفة مريبة متقافزة كالقرود هنا وهناك ، ودخان أسود يخنق الأنفاس بذات الوقت ، فهم يطالبون بتحرير القدس وفلسطين ، ويعملون على تدمير العراق ونكب العراقيين ، ويرسلون فرق الموت والأدوية الملوثة والطعام الفاسد لخطف أرواح أهل البلاد في العراق ، ويسهمون مع غيرهم في قيام النعرة الطائفية وتأجيج البغضاء وعداوات الدماء والقتل بين العراقيين أنفسهم ، بدعوى إرجاعها إلى خلافات تاريخية سابقة ، تجعل منكم أيها الخلفاء الراشدون الثلاثة في كفة ، والخليفة الراشد على بن أبي طالب في كفة التناقض معكم والمخالفة لكم ، واستغرقت هذه الفرية دماء غزيرة وعزيزة عند الجميع ، وحُكّامنا نيام وبعيدون عن الحسم ونصرة الرعية .
لقد تصدعت أركان البلاد بفعل جنود العولمة والمحتلين وأعوانهم الخائنين من شرقها إلى غربها ، ومن شمالها إلى جنوبها ، فالخليج الوهّاج عجاج ، وجزيرة العرب ملآى بالعجب والخيلاء والاستلاب ، وبلاد الشام جنون واحتدام ، وما وراء مصر والمغرب العربي تغريب واغتراب وميل لما هو أعجمي وأجنبي ، وتفشّت في ديارنا لُعب الخباثة والتعرّي في الأخلاقيات والقيم والأحكام ، فالخطأ سيد متبوع والنفاق علامة وينبوع ، والشقاق درب والدنيا قيامة ، والخيانات عادة شائعة والأمانات ضمائر غائبة ، والموت بين الناس بات يتخطى حالة القضاء والقدر ، فلدينا موت حسب الطلب وقتل حسب الطلب بالجملة والمفرد وبالتقطيع ، وبأجزاء غير مكتملة في الدليل والهداية ، وعندنا تهجير بالآلاف المؤلفة من فقراء الأمة والشرفاء الصابرين الذين يلتحفون عراء المناخات في القرّ والحر ، ولحُكّامنا مصائف ومنتجعات وهياكل مانعة وجزر خيالية تغص بالرفاهية ووسائل عدم الاكتراث بدم الأبرياء وبسطاء الخلق والأضحيات المستمرة .
لا أريد أن أثير تألمكم علينا ، وتبليغكم بحجم الغمّ الذي يركب نفوسنا ونفسياتنا ، فنحن أحفادكم الفاشلون جدا ...! وقد حاقَّ العجز المطلق بنا ، إزاء تكملة المسيرة الناجحة التي مشيتم عليها ، حتى ثبت عندنا وعلى لساننا ، بأننا لم نكن لنستأهل من جهتكم نحونا أي ولاء ، بعدما فرطنا بالعهد القويم وميثاق الصلاح الممكن لحالنا وأحوالنا في الدنيا والدين .
فعذرا لكم أيها القادة الأبرار ، مما جاء في رسالتي ، التي ألزمتني كتابة فقراتها عظمة تاريخكم الحيّ ، فلعلي بل ومعي أحياء اليوم ، نكتشف الفرق في موتنا الحاضر دون تاريخ مأمول ...!
وعذرا لكم أيها القادة العدول ، في أنَّ الحقَّ قد تبدد بين شهواتنا ومصالحنا الضيقة والأنانية ، مخالفين ما ورد عنكم من حرص عليه وتأكيد ...!
وعذرا لكم أيها النجوم المصابيح ، فنحن غارقون في سواد الظلام والعتمة ، هذا لأنَّنا مع الظالمين ربما قد اشتركنا في ظلام أشرّ ...!
ولا حول ولا قوة إلاّ بالله ...