بقلم : نقولا ناصر* ... 18.02.2012
الحصار العسكري الاقتصادي مستمر على قطاع غزة الفلسطيني فيغرقه في ليل لا تضيئه الكهرباء، بينما تغرق الضفة الفلسطينية لنهر الأردن في ظلام سياسي دامس لا يبدده بصيص أمل في أي خلاص وطني في المدى المنظور نتيجة الاصرار على الاستمرار في دوامة البدائل ذاتها التي أثبت العقدان الماضيان من الزمن عقمها.
فالخيارات البديلة المعلنة بعد فشل المباحثات "الاستكشافية" في الأردن تتلخص في استدعاء مؤتمر دولي جديد عله يتلمس مخرجا لاستئناف "عملية السلام" ومفاوضاتها وفي تكرار الطرق الفلسطيني على أبواب الأمم المتحدة الموصدة في وجه الشعب الفلسطيني منذ النكبة عام 1948 وما قبلها، حيث يقف "الفيتو" الأميركي لها بالمرصاد.
وتكاد العتمة الكهربائية والظلام السياسي المطبقين على الأفق الوطني الفلسطيني يحجبا التناقضات التي تشير إلى التخبط أكثر مما تشير إلى وضوح رؤية لما ينبغي عمله في المرحلة المقبلة وتجعل من كلا التوجهين مفرغين تماما من أي أمكانية لمنح ولو بصيص أمل بالخلاص للشعب الفلسطيني.
ويكمن التناقض الأول بين بحث الرئاسة الفلسطينية عن مخرج وبين إصرارها على الاستمرار في نهج استراتيجي أثبت أنه لا مخرج للشعب الفلسطيني فيه، إذ بغض النظر عن أهداف دولة الاحتلال الاسرائيلي من إعلانها المتكرر عن توقعات باندلاع انتفاضة فلسطينية ثالثة، مثل توقعها الأخير باندلاع انتفاضة كهذه في يوم الأرض في الثلاثين من آذار / مارس المقبل، تظل الانتفاضة الثالثة على الوضع الراهن هي المخرج الوطني المنطقي والواقعي والوحيد طالما ظلت جعبة القيادة الفلسطينية الحالية خالية من أي خيارات وطنية يمكنها أن تمنح الأمل لشعبها بخلاص قريب، فتجارب الشعوب تؤكد بأنها تمنح ثقتها وتجزل في تضحياتها فقط للقيادات التي تعطيها الأمل بأن تضحياتها لن تذهب سدى، لكنها انتفاضة تصر الرئاسة الفلسطينية الحالية على تكرار رفضها لها بأي شكل تتخذه كمخرج من الطريق المسدود الراهن الذي تجد نفسها فيه، انسجاما مع معارضتها لانتفاضة الأقصى الثانية التي أهلتها لقبول "شركاء عملية السلام" بها ك"نظام سياسي" بديل لسابقه الذي حمله أولئك "الشركاء" المسؤولية عن اندلاع انتفاضة الأقصى.
ويكمن التناقض الثاني في التعويل على جامعة الدول العربية كمدخل فلسطيني إلى المؤتمر الدولي المنشود وإلى الأمم المتحدة على حد سواء، فالجامعة العربية، مثل الأمم المتحدة، كانت طريقا مسدودا إلى أي خلاص وطني فلسطيني منذ النكبة عام 1948 وما قبلها ايضا، لا بل إن المنظمتين الاقليمية العربية والدولية الأممية قد تحولتا عمليا إلى سجن سياسي لأي بحث فلسطيني عن خلاص وطني منذ إقامة دولة الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين.
لقد أكد وزراء خارجية لجنة متابعة "مبادرة السلام العربية" في اجتماعهم الأخير بالقاهرة "على أهمية التحرك من اجل الدعوة لانعقاد مؤتمر دولي خاص بالصراع الفلسطيني الاسرائيلي"، لكنهم لم يوجهوا أي دعوة كهذه بعد، علما بأن رئاسة منظمة التحرير الفلسطينية كانت تطالب بمؤتمر دولي كهذا منذ انعقاد مؤتمر أنابوليس عام 2007، لا بل إنها كررت بعد أنابوليس مباشرة أن موسكو كانت ستستضيف مؤتمرا كهذا في العام التالي. وربما كان الاحتمال أكبر لانعقاد مؤتمر كهذا لو اعتبر وزراء الخارجية العرب أنه سيكون "خاصا" بالصراع العربي الاسرائيلي وليس خاصا "بالصراع الفلسطيني الاسرائيلي" فقط، وهنا يكمن التناقض الثالث.
ويكمن التناقض الرابع في استدعاء مؤتمر دولي "للشركاء في عملية السلام" الذين قرروا منذ مؤتمرهم الدولي الأول في مدريد عام 1991 ثم في مؤتمر أنابوليس عام 2007 تهميش الأمم المتحدة وقراراتها وشرعيتها، مما يجعل الدعوة العربية – الفلسطينية إلى مؤتمر دولي وأي توجه جديد إلى الأمم المتحدة أمرين متناقضين لا متكاملين، فهؤلاء "الشركاء" مصرون على إغلاق أبواب الأمم المتحدة أمام الشعب الفلسطيني منذ البداية وأي مؤتمر دولي جديد لهم لن يفتح هذه الأبواب بالتأكيد.
أما التناقض الخامس فبين نجاح الجامعة العربية ودولها في عقد مؤتمرات دولية سريعة "لأصدقاء ليبيا" و"أصدقاء سورية" وما شابه وبين فشلها في عقد مؤتمر "لأصدقاء فلسطين"، وهذا التناقض يشي بعجز الجامعة العربية أو يشي بعدم وجود إرادة سياسية لديها لحشد مؤتمر دولي لدعم فلسطين وشعبها وقضيتها الأكثر عدلا والأطول عمرا من كل القضايا العربية الأخرى التي يحشدون مؤتمرات دولية لها.
لكن نجاح جامعة الدول العربية في الاستجابة للاقتراح الفرنسي – الأميركي بعقد مؤتمر "أصدقاء سورية" بتونس في الرابع والعشرين من الشهر الجاري لا يشير إلى أنها عاجزة أو تفتقد الارادة السياسية بقدر ما يسلط الأضواء على تناقض سادس صارخ بين إجماع عربي على السلام مع دولة الاحتلال الاسرائيلي يسوغ الفشل العربي في عقد أي مؤتمر دولي للضغط عليها من أجل الاستجابة للحقوق الفلسطينية المشروعة وبين شبه إجماع الدول التي تصنع قرار الجامعة العربية منذ فترة على التخلص من دول عربية معارضة لأي سلام مع دولة الاحتلال بشروطه المفروضة على الأمة بعربها ومسلميها منذ اتفاقيات كامب ديفيد عام 1979، حتى لو اقتضى الأمر دعم حروب الفرنجة المعاصرين عليها عسكريا وماليا ولوجستيا وسياسيا ودبلوماسيا كما حدث في العراق وليبيا وكما يجري حاليا في سورية وكما يخطط له علنا ضد إيران الاسلامية.
إن التصريحات الأخيرة لعضو لجنة مركزية حركة "فتح" ووزير الشؤون المدنية في رام الله المحتلة، حسين الشيخ، التي أكد فيها أن السلطة الفلسطينية لا تتمتع منذ عام ألفين بأي صلاحيات سيادية حتى في المناطق المصنفة "أ" بموجب الاتفاقيات الموقعة بين منظمة التحرير وبين دولة الاحتلال، وأن دولة الاحتلال تنوي إعادة إلحاق الادارة المدنية بالحاكم العسكري للاحتلال بالضفة الغربية وسحبها من السلطة، إنما تذكر بأن الاحتلال ودولته وشركاءه في "عملية السلام" قد اعتبروا النظام الفلسطيني منذ عام ألفين نظاما مارقا داعما، كما يدعون، للارهاب، أي للمقاومة الوطنية، مثله مثل سورية والعراق وليبيا وإيران، لذلك كان أول نظام إقليمي جرى تغييره بالاجتياح العسكري عام 2002 الذي لم ينته إلا "باسقاط الرئيس" ياسر عرفات واستشهاده بعد عامين. ومع أن النظام الذي خلفه انضم قلبا وقالبا إلى جامعة الدول العربية المجمعة على السلام ولمجتمعها "الدولي" الذي تقوده الولايات المتحدة والتزم بشروط اللجنة الرباعية الدولية الثلاث المعروفة للاعتراف به والتعامل معه، فإن هذا النظام الفلسطيني "الجديد" يجد نفسه اليوم رهينة مأزقه الراهن الذي لا يجد منه مخرجا لهذه الأسباب على وجه التحديد، وهنا يكمن التناقض السابع.