أحدث الأخبار
السبت 23 تشرين ثاني/نوفمبر 2024
حيفا الكرملية موسوعة المدينة العريقة بكامل تراثها!!

بقلم : رشاد أبوشاور  ... 07.03.2012

بعد موسوعة (يافا الجميلة) الصادرة عام 2003، في مجلدين ضخمين، وبصفحات بلغت 1569 من القطع الكبير، معززة بالوثائق، والصور الفوتوغرافية، والرسومات، والخرائط..وبجهد فردي، عاد الباحث علي البوّاب، وقدم موسوعته الثانية الضخمة (حيفا الكرملية) في مجلدين بلغت صفحاتهما 1388 من القطع الكبير.
من عنوا باقتناء (يافا الجميلة) حسبوا أن الباحث على البواب لن يكرر إنجاز موسوعة جديدة، ذلك أن الجهد الفردي مضن، ومكلف نفسيا وبدنيا وماليا، ومع ذلك فقد تغلّب على حزنه وألمه، وقام بما دفعه إليه واجبه تجاه وطنه، وها هو قد عاد لنا بموسوعة (حيفا الكرملية)، وأحسب أن أحدا ما كان سيلومه لو لم يستأنف جهوده البحثية التي تكللت بإضافة هذا العمل الكبير للمكتبة الفلسطينية، بله العربية، لتكون دليلاً هاديا للتعرف على مدينتنا الخالدة، على مدى الأزمنة الغابرة، والأزمنة المعاصرة التي ما زلنا نعيش وقائعها، ومحنها.
لم يكسل الباحث علي البواب، ولم يتوان عن المتابعة، فحيفا هي شقيقة يافا، وإذا ما كان دافعه لبذل جهوده المحمودة في إنجاز موسوعة (يافا الجميلة) كونها مسقط رأسه التي شهدت ولادته عام 1947، أي قبل نكبة 1948 بعام واحد، فإن حــيفا تستحق العناء، وهذا ما شجعه على النهوض به المؤرخ الأردني الدكتور محمد عدنان البخيت، الذي وفّر له وثائق، وكتــــبا، ســـواء من مكتبته الشخصية، أو من مكتبة الجامعة الأردنية، وهو ما أعانه في كتابة (حيفا الكرملية).
كتب الدكتور البخيت في مقدمتة الموسوعة: وعندما أجلس لأضع هذه المقدمة المتواضعة لهذا العمل الكبير، أتخيل عن بُعد موجات بحر حيفا تغسل شطآنها، تنظف حاراتها وأزقتها القريبة..وكما تفعل الأمواج كل ذلك، فإن عمل علي البواب يؤدي نفس المهمة في جلاء الحقيقة وتنقيتها من الأدران، وبعضها ضد مدلسي التاريخ الذين يقلبون حقائقه بعد أن سلبوا منّا الأرض...
بهذا الجهد الكبير المتصل في كتابة الموسوعتين، قدم علي البواب نفسه باحثا مجدا، ووطنيا صادقا هدف إلى التذكير، وبإلحاح، على أن فلسطين تبدأ من هناك..بالضبط من هناك، ليس من حدود 4 حزيران التي تتسابق الأطراف المتصارعة على القبول بها حدودا (للدولة) الفلسطينية السرابية..ولكنها تبدأ من شواطئ المتوسط الذي نشأت عليه المدينتان العريقتان، ومن عمق مياه المتوسط التي طالما مخرتها زوارق، وسفن، وبواخر حملت الخير ذهابا وإيابا، وبوارج حملت المدافع والغزاة الذين نشروا الخراب، ودمروا المدن العريقة المتحضرة، واستباحوها، ونهبوا ثرواتها، وهذا ما تكرر ويتكرر حتى يومنا، ويتواصل منذ بدأت نكبة العرب في فلسطين عام 1948.
تقديم هذين السفرين عن المدنيتين الضاربتين في المكان الفلسطيني الكنعاني، العريقتين العنيدتين، واللتين نكبتا مرارا وتكرارا، ونهضتا من الخراب، وتحديتا النسيان، بفضل البُناة الأسلاف الذين أورثوا أصالتهم وعنادهم لأحفادهم الذين أعادوا دائما البناء أبهى وأعلى وأعمق جذورا..هو زاد معرفي تتسلح به الأجيال الفلسطينية بخاصة، والعربية بعامة، يعزز الإيمان بعروبة فلسطين، وبحتمية استمرار الصراع الذي يستوجب أن تحشد له الأمة العربية كل طاقاتها وقدراتها حتى يتكلل الصراع بالانتصار الذي ينهي الكيان الزائف المُغتصب، ويعيد الحق لأصحابه الشرعيين.
بالإضافة إلى ما استفاده ممن سبقوه، فإن البوّاب قد بحث عن شيوخ وعجائز حيفا، ليسمع منهم مباشرة، في الأردن، ولبنان، وسورية، ليعزز المعلومات بالشهادات الحية المدعومة بالوثائق، ولا سيما بالنسبة لتاريخ حيفا المعاصر، وما جرى في حرب 1948، وما سبقها من نشاط صهيوني، والدور البريطاني الإجرامي الذي نفذه أول مندوب سام على فلسطين، اليهودي الصهيوني هربرت صاموئيل.
هناك دور خاف، وشبه مجهول للمستوطنين الألمان الذي قدموا إلى فلسطين في القرن الثامن عشر، واستوطنوا مساحات من جبل الكرمل الذي يحتضن حيفا، و..بعض السهول المحيطة بالمدينة، وهؤلاء لعبوا دورا خطيرا إلى أبعد الحدود في (تسريب) الأراضي التي امتلكوها لليهود الصهاينة، وغادر أكثرهم المدينة قبل حرب ال48 بقليل، وبعد أن (باعوا) ممتلكاتهم لليهود بطريقة غريبة تتطلب من باحثينا التنقيب عن (سّر) هذه العملية الجهنمية..وخلفياتها.
من المصادر التي استفاد منها الباحث، سجلاّت (المحكمة الشرعية)، والتي احتوت على كل ما يتعلق بالزواج، والأراضي، وعقود البيع والشراء، والولادة والوفيات...
يبدأ الباحث موسوعة حيفا بالعودة إلى سيرتها في العصور القديمة، والقارئ سيدهش لطبيعة المكان الذي اختاره أسلافنا بين الجبل والبحر، وفي موقع يصلح أن يكون ميناءً محميا طبيعيا بجبل الكرمل..والمكان الحيفاوي متصل بعكا، ومتحرك..ولكنه مع ذلك ثابت لا يغادر (موقعه)، ولا يمكن تزويره رغم النكبات التي توالت عليه، وعلى أهله، وامتدت أحيانا لتشمل المكان الأوسع: فلسطين كلها، وأهلها جميعا.
سيدهش المتصفح للموسوعة ـ فهي لا تقرأ على نفس واحد بالتأكيد ـ وهو يقرأ عن انتشار الهاتف في حيــــفا، وأرقام هواتف الفنادق، والشركات، والمؤسسات، وحتى الأسر، ناهيك عن أسماء الفنادق، والمحال التجارية..وأيضا وهو يتأمل صور حيفا في مطلع القرن العشرين، والمدى الذي بلغته من التطور والمدنية والجمال...
تتكون الموسوعة من أبواب تشمل كل شيء عن المدينة، من النشأة وحتى يومنا هذا، ويفسح أبوابا يستفيض فيها عن شتى جوانب حياة المدينة وأهلها في القرن العشرين، عمرانيا، اقتصاديا، سياسيا، ثقافيا، إداريا..وما جرى لها ولأهلها في حرب 1948.
يبدأ البواب المجلد الأول بالحديث النبوي الشريف (اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون)..ويهدي الموسوعة إلى من يستحقون: إلى أرواح شهداء فلسطين..ويتبع الإهداء بتثبيت نشيد موطني لشاعر فلسطين الكبير إبراهيم طوقان.
جهد علي البواب الفردي، وجهود آخرين غيره، في خدمة ذاكرة الأجيال الفلسطينية، بتعريفهم بمدنهم، وقراهم، وتفاصيل وطنهم، وتاريخهم، وانتمائهم لأمتهم..فوق أنه يستحق الثناء والتقدير، فإنه يفضح التقصير من الجهات التي تملك أن تدعم العمل الفردي، وتعمل جادة على تطويره إلى عمل مؤسسي يحتضن جهود الأفراد المبدعين ويوفر لهم الإمكانات المادية تحديدا، ويريحهم من هم وأعباء الطباعة والنشر والتوزيع..ويشجعهم على تقديم المزيد خدمة لقضيتنا وشعبنا وأمتنا...
في مقدمته للموسوعة يشكو البواب من معاناته في كتابة (يافا الجميلة): عندما فرغت من إعداد (يافا الجميلة) في أواخر عام 2001، وبسبب ما عانيته في سبيل إصدارها، آليت على نفسي ألاّ أعاود الكتابة مرّة أخرى، وألاّ أعيد هذه التجربة على الإطلاق..ترى: هل نلومه هو وأمثاله؟!
الدكتور البخيت نصحه أن يكتب عن مدينة حيفا بنفس أسلوبه في كتابة يافا..وقال له: لن تندم..ولاحقه مطالبا إياه بالكتابة..وها هو البواب قد كتب، وقدم ما عليه لوطنه وشعبه..وبقي أن يلقى هذا الصنيع النبيل ما أراده منه: أن يقتنى، ويقرأ..ويلخص للأطفال والفتيان..وأن يرجع له بين وقت وآخر..فهو زاد لا يشبع منه، ولا يمّل..وهو عمل مقاوم لمحاولات تزوير الصهاينة للتاريخ، وتشويههم للمكان الخالد.
إنها حيفا مدينتنا التي تبدأ منها ومن يافا وعكا فلسطين أولاً..وليس من غزة أريحا..وهي تستحق هذا العناء والتعب والتضحية بالمال والجهد.