بقلم : خالد الحروب ... خالد الØروب
برحيل حيدر عبد الشافي، الشخصية الوطنية التاريخية في قطاع غزة وفلسطين، وأحد الرجالات القلائل في العقود الأخيرة ممن كانوا محط الإجماع العام، ينكشف تردي الوضع الفلسطيني الراهن أكثر وأكثر. وفي وقت يبحث فيه الفلسطينيون عن رموز جامعة ترتقي فوق انتماءات الانفصال الكارثي الحاصل بين الضفة الغربية وقطاع غزة، يغيب هؤلاء الرموز بالموت أو الإنزواء الطوعي. ونعرف جميعاً أن عبد الشافي كان قد هده المرض في السنوات الأخيرة ولم يعد نشطاً على المستوى السياسي كما كان من قبل. لكن غيابه يفتح بوابات القلق على مسألة مهمة في الحقبة الفلسطينية الراهنة، وهي غياب المرجعيات الفلسطينية والشخصيات التي اصبحت رموزاً لها ثقلها الوطني وتاريخها ونضاليتها واحترامها الواسع العابر للحزبيات والانتماءات الفصائلية. يصعب التفكير، فلسطينياً، في الوقت الراهن بأسماء وشخصيات تحظى بالثقل الوطني والتقدير ذاتهما، وتتمركز في مربع الوسط السياسي بعيداً عن الانشداد والولاء الحزبي. هناك أسماء ورموز لكن كثير منها تغلب عليها الحزبية أو عدم الارتقاء فوق المصالح والانتماءات، لكن هناك كثيرون من عيار حيدر عبد الشافي لا من ناحية الإجماع الوطني، ولا من ناحية العلاقة بمسؤولية وطنية لأي مسار سياسي يمكن أن تتخذه الرسمية الفلسطينية.
ويندرج غياب حيدر عبد الشافي في خانة الغياب نفسها التي التهمت في السنوات الأخيرة رمزين آخرين من رموز الإجماع الفلسطيني هما ياسر عرفات وأحمد ياسين. يختلف عبد الشافي عن عرفات وياسين من ناحية التمثيل الحزبي، وقد اختلف معهما أكثر من مرة على أكثر من قضية، لكن كل من الآخرين كان يمثل بعداً مميزاً وإجماعياً على صعيد شد أطراف الطيف السياسي الفلسطيني إلى منطقة الوسط. وجودهما وفر بؤرة في مركز التسيس الفلسطيني ظلت تحدد المعالم الأبرز للحركة الوطنية الفلسطينية في العقدين الأخيرين. كلاهما ارتكب أخطاء عديدة، وبعضها جسيم، لكن الإضافة الأساسية كانت في الإبقاء على شكل معقول من الشرعية الفلسطينية والإجماع الفلسطيني خلال مرحلة ما قبل الدولة.
من تاريخ اتفاق أوسلو الخلافي سنة 1993 بدأ التصدع في الحركة الوطنية الفلسطينية، الذي سرعان ما أنتج تآكلاً تدريجياً لشريحة من الرموز التاريخية التي كان من الممكن أن تتحول إلى طبقة وخزان للشرعية الفلسطينية خلال مرحلة التحول إلى كيان سياسي. ففي كل ثورة تحرر وطني يمتد أثر الأسماء الكبرى التي أسست وقادت الثورة إلى مراحل لاحقة، ينجح بعضها في أن يكون جسر العبور الآمن إلى الحقبة التي تلي. ويعيش بعضها على الرصيد النضالي والسياسي السابق، وأحياناً يسيء التصرف فيه حتى ينهيه. والبعض الآخر ينتزع شرعية انتخابية جديدة يجدد بها الشرعيات النضالية والثورية التي كانت قد تراكمت قبل التحرر وقيام الدولة مثلاً. لكن خلال هذه الصيرورات تنشأ طبقة تمثل بشكل أو بآخر أحد عناوين الشرعية السياسية الوجدانية للكيان القائم، وكأنها القيم الأخلاقي عليه وعلى صوابية مساره. وقد تفتقد غالبية رموز هذه الطبقة لمنصب سياسي أو شرعية انتخابية يؤهلانها للنطق بإسم الشرعية، لكن الحمولة الرمزية التي يمثلون تمنحهم دوراً متفقاً عليه، وإن كان غير مباشر، في دعم الشرعية الجديدة، أو نقضها.
دور هذه الطبقة، طبقة الإجماعات السياسية الكبرى، المتولدة عن تراكم الدور والإنجازات الوطنية المتعدية لأطر الولاءات الضيقة والظفر بالشرعية الشعبية، يكون مركزياً في ظروف التحول الإنتقالي من الثورة إلى الدولة، أو التحول الحاد من مرحلة إلى مرحلة أخرى. وعندما ترافق هذا التحول هشاشة في الاستراتيجية، أو غموض في قيام شرعية جديدة، أو انتكاس مثلاً، في عملية الانتقال نحو الديموقراطية، تكون مساهمة تلك الطبقة في مراقبة مسار التحول ونقده أمراً جوهرياً ومهمة بالغة الحساسية ربما لا يستطيع القيام بها إلا من هم من هذه الطبقة.
ربما يتأتى للبعض القول بأن هذا التوصيف يحمل في طياته نوعاً من الإقرار بضرورة وجود «أبوة سياسية»، لكن ذلك بعيد كل البعد عما يُراد هنا. فجوهر الفكرة في هذا السياق هو التأمل في: أولاً، آليات المحافظة على أسس المشروع الوطني القائمة على التحرر من الاحتلال، وثانياً، آليات المحافظة على الحدوث السلمي لتجدد الشرعيات الوطنية، انتخابية وديموقراطية بالأساس، من دون حدوث تصدعات في المشروع الوطني برمته. وعندما تكون التجارب السياسية، كما في الحالة الفلسطينية، أحادية الممارسة، نضالية وكفاحية ضد المحتل، وخبرتها قليلة في الانتقال إلى عملية سياسية ديموقراطية مع الإقرار بنتائجها، فإن وجود طبقة من الرموز ذات الثقل الوطني والرمزي يكون عاملاً مهماً إن لم يكن جوهرياً لمراقبة وصيانة عملية التحول. وهذا الدور ظرفي وموقت وينتهي بعد ترسخ مرحلة التحول. وبمعنى آخر ليس لهذه الطبقة دور مركزي في عملية وطنية تحررية ناجزة الأهداف، أو عملية ديموقراطية متحققة الغايات.
أما في سياق عملية سياسية وتحررية بوصلتها العامة تعاني من الترنح كما في الحالة الفلسطينية، فإن غياب الرموز الجامعة يساهم في زيادة تردي تلك البوصلة وتشتت الجهد الوطني. وعلى كل حال ينطبق قدر كبير من هذا التوصيف على معظم الحالات العربية رغم أنها تعيش في حقب أخرى ومختلفة تماماً، هي حقب الدولة والاستقلال. لكنها حقب غير مستقرة هي الأخرى بسبب الاستبداد وغياب الحريات والضعف السياسي العام وارتهان سيادة القرار للخارج. ولأنها حقب غير مستقرة وبرسم التحول إلى حقبة جديدة مأمولة فهي تحتاج إلى طبقة تحمل على عاتقها هذا التحول، طبقة من الشخصيات الرمزية والتاريخية والوطنية التي تحتل موقعاً في الوجدان الشعبي. هذه الطبقة هي المفقودة في معظم الحالات العربية، إذ أن كثيراً ممن كانوا مرشحين للعب دور مركزي فيها انجروا إما للانضمام إلى الطبقات الحاكمة وبذلك خسروا شرعياتهم الشعبية، أو تطرفوا بولاءاتهم الحزبية بحيث صار من الصعب على المخيلة الوطنية تصورهم فوق وخارج تلك الولاءات.
فلسطينياً، وراهناً، تتبدى الصورة بشكل بالغ السوء. ففي الضفة الغربية (الفتحاوية السيطرة)، وفي قطاع غزة (الحمساوي السيطرة)، وفي أوساط الشعب الفلسطيني في الشتات، يصعب علينا رصد ملامح لطبقة فلسطينية مكونة من رموز وطنية ذات ثقل كبير وتمثل تحدياً للانقسام القائم وقياداته. وهذه الطبقة، الغائبة والتي ليست حزباً بالطبع، ليست مقصورة على غير الحزبيين أو من لم يكن لهم ماض حزبي، بل إن غالبية رموزها يكون لهم تاريخ حزبي ونضالي أو فكري وهو الذي منحهم أصلاً شرعية الانتماء إلى الرمزية العامة التي تمثلها هذه الطبقة. حالياً هناك فراغ كبير في منطقة الوسط السياسي الفلسطيني أحد أسبابه هو غياب تلك الطبقة، وما يمكن أن تمثله من طاقة معنوية. وحتى نتخيل حدة هذا الغياب لنا أن نتأمل جميعاً في مسألة قيام مبادرة فلسطينية داخلية لرأب الصدع بين «فتح» و «حماس»: هل من الممكن أن تقوم مثل هذه المبادرة؟ من يطلقها ويرعاها؟ من هي الرموز التي ستخضع لها قيادتا «فتح» و «حماس»، وينظر اليها الشعب الفلسطيني من قبل ومن بعد نظرة الاحترام؟
الغالب على خطاب كثير من رموز الداخل الفلسطيني في اللحظة الراهنة، والمتجسد في الشتائم وتبادل الاتهامات بين «فتح» و «حماس»، هو الصبيانية المخجلة. والتسابق على تبني سياسة ولغة صبيانية من قبل قادة كبار يقود إلى استهلاكهم المتسارع لماضيهم النضالي ويقلص خبرتهم إلى التشاطر في إصدار مساجلات تافهة. هؤلاء جميعاً يخسرون ويخسر الشعب الفلسطيني معهم عبر خروجهم الطوعي من دائرة الرمزية المعنوية الحافظة للإجماعات الفلسطينية. فالذين يطلون على شاشات الفضائيات وقد شاب شعر رؤوسهم في مراحل النضال السابقة، وحين يصبح كل همهم تسجيل نقطة حزبية هنا أو هناك عبر الصياح والعويل، إنما يسحقون مربعات إضافية من منطقة الوسط، ويحرمون أنفسهم من التحلي برمزية أبعد من توتر وتحزب اللحظة المعنية.
قبل سنتين وفي مخيم الدهيشة للاجئين الفلسطينين (حيث ولدت) وسط مدينة بيت لحم عرفني صديق عزيز إلى «ابو صبحي» أحد كبار السن في المخيم. عندما تحدث إلينا بتؤدة كانت خبرة وحكمة وتجارب أكثر من سبعين سنة، مع الاحتلال واللجوء ومآسي الناس وحل مشاكلهم وفض نزاعاتهم، تتحدث إلينا. بجسده النحيل وكوفيته الفلاحية البيضاء وقمبازه الفلسطيني التقليدي ولفافة تبغه التي لا تفارق يده لم يتبد عليه ما يميزه عن بقية كبار السن في المخيم. قال لي صديقي: هذا الرجل هو أحد أهم عناصر الوحدة الوطنية في المخيم! عندما تختلف الفصائل، ويبلغ خلافها مدى لا يحتمل، ويستبد الغضب والصبيانية بقياداتها المحلية في المخيم، يمسك «أبو صبحي» قياداتها «من آذانهم» ويجمعهم معاً ويطلب منهم حل المشاكل بالحوار. «أبو صبحي» هو المراقب العام للوحدة الوطنية. فلسطين اليوم تبحث عن «أبو صبحي» في الضفة والقطاع والشتات، في وقت هي في أمس الحاجة إليه.