بقلم : سهيل كيوان ... 03.11.2011
مطلع هذا الأسبوع قام يهود متطرفون بإحراق مطعم فلسطيني في يافا على غرار إحراق مسجد طوبا في الجليل قبل أسابيع، تاركين وراءهم بنفس الشعارات العنصرية. في فلسطين وداخل ما أطلقوا عليه اسم (الخط الأخضر) يحتفي الناس بالديمقراطية والحرية والتعددية، ولهذا أطلقوا عليها في الغرب (واحة الديمقراطية)، وفي الواحة مسموح لك أن تعلق يافطة 'مطعم لبناني، أو شامي، منسف أردني، فول مصري، كباب روماني، جحنون يمني، مأكولات من الأرجنتين أوالبرازيل، أشغال يدوية من أمريكا اللاتينية، بار ومطعم كوبا، مطعم صيني، فرنسي، روسي، قهوة تركية، كسكس مغربي، سجاد فارسي، أجبان هنغارية، طابون عراقي، سلطات يونانية، بوظة طليانية، وطبعا كل زبالة وعفن وسرطانات الطعام الأمريكي المقزز وأقسم بالله أن قطتنا ترفض أن تأكل منه لما يحويه من سموم كيماوية حتى وهي جائعة، وغيرها وغيرها من كل ما يخطر في بالك، ولكن أن تكتب على مطعمك يافطة 'مطعم فلسطيني'..! فهذا يعني أنه يوجد شيء اسمه طعام فلسطيني داخل 'دولة اليهود' كما يريدها أوباما وساركوزي وميركيل وغيرهم.
ومن له طعام ينسب إليه فلا بد أن يكون موجوداً وله تراثه، ومن له تراث فلا بد أن يكون له مكان يمارس وينتج في حيزه هذا التراث، إذن ففلسطين هي مكان وشعب، وهذا تجاوز لحدود الأدب واستفزاز صارخ لصناعة السلام المزدهرة وعداء للسامية وتراجع للحضارة البشرية نحو الوحشية، فكل شيء جائز ومشروع في فلسطين إلا أن تكون فلسطينياً، بإمكانك أن تكون مسلماً أحمدياً أو شيعياً أو سنياً، أو مسيحياً، العربي قد يكون جيدا أو سيئاً فليس كل العرب سواء،قد تكون عربياً قذراً ولكن هناك احتمالا ولو بسيط بأن تكون نظيفاً، قد تكون سلبياً ولكن قد تعدّل جينياً لتغدو إيجابياً، أما أن تكون فلسطينياً حتى ولو كنت على شكل طبق من الكبّة أو المجدرة أوالشلباطة والمخبوصة وورق العنب والكوسا المحشي فهذا استفزاز يجب الرد عليه بقوة.
هناك من يقول إن بإمكانك أن تكون فلسطينياً في فلسطين، ولكن ليس كما تشاء، فالدنيا ليست سائبة، وإذا كنت معنياً بالفعل فمقاييس الفلسطيني موجودة في أرشيف كنيست إسرائيل، وفلسطين تم تفصيلها عند الإسكاف لتلائم قدمي ومزاج أكثر المستوطنين غباء وعدوانية وشذوذاً، أما أن تتواقح فلسطين وتصبح عضواً في منظمة اليونيسكو بدون موافقةٍ حتى من ذلك الراب الذي اغتصب تسعة من تلاميذه، فهذا عدوان، غارة همجية، قتل عشوائي أكثر وحشية من الفوسفور والنابالم، وتصرف غير مسؤول يبعث ببراعم السلام إلى جهنم الحمراء، دخول اليونيسكو يكشف النوايا الخبيثة والإجرامية، وأسوأ ما في هذه الجريمة أنها حدثت من جانب واحد بدون تنسيق مع نتنياهو الذي ينسق مع ليبرمان وأوباما اللذين ينسقان مع كلبيهما، لا عجب إذن أن تنهار كل المساعي لصنع السلام المشوي بالطابون على طريقة مطعم أبي العبد المحترق في يافا، وهذا يعني أيها الفلسطيني حرمانك من مصروفك الشهري، وترك الاستيطان يتغول أكثر وأكثر كي تتعلم كيف تذهب إلى السينما بدون إذن من أسيادك...
فلسطين أرض المعجزات والأنبياء، كذلك هي أرض العلت والفول الأخضر مع البصل والسمك مع الثوم والفلفل والمسخن بالبصل والدجاج وخبز القمح، فيها من الخير ما يفوق كل ثروات الأرض وما سيكشف عنه في الكواكب مجتمعة ورغم غناها الفاحش يهددها نتنياهو ثقيل الدم وأوباما ال...(ضع ما تشاء مكان النقاط) بحرمانها من المصروف، فلسطين التي غرقت ونعمت بخيرها شعوب، وسوف تنعم وتغرق بخيراتها شعوب كثيرة حتى يوم القيامة تهدد بقطع المصروف عنها، فلسطين الكنز الذي يسمونه (القضية)، منبع الخير لكل هذا العالم بفقرائه وأغنيائه، أرض المنشر والمحشر، منها سوف ينسل الناس من أجداثهم في يوم النشور، بينما تنتشر في الأجواء رائحة طبخات مطعم أبو العبد في يافا الذي أحرق لأنه كتب لافتة تقول إنه 'مطعم لبناني فلسطيني أصيل'، لو اكتفيت يا أبو العبد بـ(مطعم لبناني) ربما غضوا الطرف عنك..أما أن تدبها هيك..فلسطيني أصيل....ليش ليش ليش!
العالم كله مدين لـ(القضية)، إنها تشبه ذلك الحجر السري في بناء القصر الذي هندسه سنمار، ولهذا كان وما زال هناك إجماع بين أصحاب الشوكة من بني البشر لتخليدها،لأن العالم سيكون تافهاً بدون الـ(قضية)، سوف تصبح فلسطين اسماً عادياً مثل.. البيرو... أوغندا... سلوفاكيا.. كوالالمبور.. مكرونيزيا... وحينئذ كيف ستدبر البشرية أمورها وقد صار تعدادها سبعة مليارات...
صحيح أنه في أول يوم يعلن فيه عن نهاية (القضية) سيتنفس المليارات السبعة أو الخمسة عشر الصعداء، ستكون محطة مفصلية في تاريخ البشرية، تشبه لحظة اكتشاف سر الحياة على الأرض (هذا إذا اكتشف في يوم من الأيام)، وستنطلق احتفالات عظيمة عفوية وسخيفة في فلسطين نفسها، سيحتفل العرب واليهود والأمم كلها معهم، سيخرجون للتعبير عن فرحتهم بمناسبة حل (القضية) وطي صفحتها، إلا أن البشرية ستكتشف خلال أيام حجم الكارثة التي جلبتها على نفسها بيديها، وسيندم البشر حيث لا ينفع الندم، سيقولون ليتنا واصلنا الحروب وإحراق المطاعم والمساجد وتقديم الشهداء والقتلى والأسرى والقصف المتبادل والحروب الطويلة والقصيرة حتى يوم القيامة ولم نحل القضية.
ستتقلب التماسيح حقداًُ في كل مستنقعات الأرض،حتى في فلسطين نفسها سوف يتساءلون عرباً ويهود..لماذا تسرعنا في حل القضية، لقد أصابنا مثل ذلك الذي ذبح دجاجته التي كانت تبيض له ذهباً وفلافل، ماذا سنفعل الآن بدون قضية، كيف سنعيش! الأمن، السجون، الحواجز، الجدران، السلاح، الإسعاف، الطوارئ، الملاجئ، الجامعات والجمعيات ومبيدات الحشرات، الأدوات المنزلية ذات الاستعمال لمرة واحدة، الهدم، إعادة البناء، الاستيطان، الأطعمة المحفوظة، السماسرة والنصابون، الدول المانحة والمستقبلة والمضيفة والمستغلة والمضطهدة والمنصفة ورجال الجمارك، تجار الطوائف والقوميات، كل هؤلاء سيجدون أنفسهم بلا قضية، وسيلعنون الساعة التي احتفلوا فيها بحلها، وسيجد كثير من الحكام أنفسهم عراة تماما بلا رداء يستر عوراتهم، سيجدون أنفسهم بلا ممانعة ولا مقاومة ولا قدس ولا بيانات استنكار أو تنديد بحرق مسجد أو مطعم أو مصادرة أو اقتلاع أشجار وبيوت وبشر، وبدون مكرمات ملكية ورئاسية لا للأسرى ولا للحجيج القادم من بيت المقدس، ببساطة سيضطرون للرد على سؤال الشعب البسيط .. لماذا نحن فقراء حتى بدون قضية تستنزف عرقنا وتعبنا... أين أموالنا... لماذا الذل والهوان والإرهاب، لماذا تحكموننا بالطوارئ وقد ولى عصر الممانعة، إلى جانب كل هذا سيكون هناك (وعلى البيعة) آلاف الشعراء والكتاب والفنانين الذين سيجدون أنفسهم هباء مثوراً بدون الـ(قضية). لهذا أيها السادة لا بد من قضية جديدة، ولكن ما هي القضية التي ممكن أن ترتقي لتصبح الـ'قضية'! لا تتعبوا فلن تجدوا أيها السادة، ولهذا يجب أن تبقى وستبقى القضية بلا حل إلى الأبد، وبالمناسبة فإن أخطر ما قد يحمله الربيع العربي للمنطقة والعالم هو حل القضية، والشروع بتوزيع سبعة مليارات رغيف فلافل على سكان الكرة الأرضية من فلافل أبي العبد من يافا...