بقلم : لبنى ياسين ... 29.12.2011
*إهداء إلى الشاعر والناقد نعمة السوداني
الجدرانُ الباردةُ تتربصُ به من كل صوب، يكادُ يقسمُ أنَّ لها أنياباً وعيوناً لا يراها غيره، يطعنه البردُ بألف نصلٍ يجتازُ حوافَ روحه، من أينَ للجدرانِ بكلِ هذه البشاعة؟ من أينَ لها بكلِ هذا الكره؟
تتجاذبُه ذكريات بيته الصغير، لم يكنْ بيتُه فخماً، ولا هو مؤثثاً بما يوافقُ آخر صيحات الأثاث العصري، كان منزلاً دافئاً فحسب، يلمُّ شتاتَ أوجاعِه مع شريكة عمره، فيعرفُ أنَّ للدفءِ أصابعَ سحرية تتغلغلُ في الأفئدة فتزيلُ عنها صقيعَ الخيبةِ، وتبعثرُ زوابعَ الغضبِ عن انحناءاتها حين يلمحُ الأربعين حرامي يتمددون على عرشِ الوطن، بأمرٍ منْ علي بابا، وقد تاخمتْ كروشهم حدودَ السماء.
يا الله أيها الوطن..كم من الدم يجب أن يسيلَ على شعابك لكي تعودَ أخضرَ؟
كم حجاج يجب أن يمر بخطاه فوق أزقتك يتقطر الدم عن أنامله التي مزقت رقاب العباد بسيف جبروت ظالم؟
بيدٍ مرتعشةٍ يحفرُ على خدِ الجدارِ كلماته، لعل الجدار يشعر بأوجاعه، بحنينه المتكدس فوق شقوق صدره، فيتقمصه الدفءُ سكناً، ويتوقفُ عن بثِّ الجفاء في قلبه كلما حدَّقَ به.
"إنك لم تعد هنا
ابحث عن قبرك
إنه يتدلى
أنت خارج النافذة
أمامك كوة
لا تسمع
لا ترى"
ابتسمَ في سرِّه وهو يعيدُ قراءة ما كتب، "أنت خارج النافذة"، قالَ في نفسه:
أنتَ خارج الزمان والمكان..خارج نفسك..خارج خريطتك..خارج كل شيءٍ ينبضُ بالحياة..لكنكَ داخل زنزانةٍ..والتهمة..خيانة الوطن..يا لها من مهزلة، يجب أن تكون تهمتي عشق الوطن، حب الأرض حد الموت، الإخلاص غير المحدود لخريطته..ولكن ليس خيانته".
مرَّ في خاطره تساؤل أرعبه: هل سيعرفُ أولادي أنني أُعدمتُ بتهمةِ إخلاصي للوطن..أم سيشوهون صورتي أمام عيونهم فيخجلون من ذكر اسمي؟؟
ثم تراءتْ له زوجته وهي تهمسُ في أذنِ أولادها سراً، بعيداً عن الآذان الفضولية، عن كتبة التقارير والأكاذيب: أبوكم كان رجلاً يحبُ أرضه فلم يستطعْ أن يحتملَ سكاكينهم وهي تشوه ملامحها، كانت محبوبته، وكان صعباً عليه أن يراهم يغتصبونها، كانوا كثراً وكان واحداً، مدججينَ بالكره والجبروت ولا يحملُ إلا قلبه، حاكموه بتهمة خيانتها، بكتْ الأرض صرختْ، أخبرتهم أنهم الخائنون، لكنهم كانوا عندها يشربونَ نخبَ موته، وحُوكم على مرأى من القيود التي في معصميها بتهمةِ الخيانة..والخيانة تهمةٌ عقوبتها الإعدام.."كان يجبُ أن ُيعدموا واحداً تلو الآخر بالتهمةِ ذاتها.. لكنهم أعدموه"..هكذا صرختْ الأرض يوم إعدامه.
التمعتْ دمعةٌ في عينه لم يستطعْ مقاومة مخاضها، تمشتْ ببطءٍ على خده، مرَّر يده على قدمه التي ُعطبتْ وتهتكتْ أنسجتها لشدة التعذيب، ابتسمَ مرةً أخرى رغمَ ألمه وهو يقبضُ على الساقِ ذاتها قائلاً: حسناً..لا حاجةَ لي بكِ وأنا سائرٌ إلى الموت بعد أيام...فالموتُ يا صديقتي لا يأبه برشاقةِ الخطوات المتجهة نحوه..إنه يحصدها فحسب.
كانتْ ابتسامة مخادعة تلك التي ارتسمتْ على شفاهه، كل ما فيه يبكي..ينتحب، فكيفَ تبتسمُ الشفاه؟ أيام ويُساق إلى حبل المشنقة، لا يهمه الموت بقدر ما تطعنه التهمة التي سيعدمونه بسببها.
أنا خائن؟؟
استندَ على الجدارِ الباردِ محاولاً الوقوف، لم تساعده ساقه المعطوبة كثيراً لكن إصراره فعل، تذكر أحد رفاق السجن، ُأعدم البارحة، منذ إعدام ذلك الرجل وفي قلبه يتشققُ الصمت، تتقطعُ أوردةُ الكلام، ويتشاجرُ النبضُ في صدره، وتخونُه الدموعُ في حضرة الخيبة والفجيعة، وتتزلزلُ أوردته ويقاتله الدمُ المار فيها، رفعَ يمينه عن آخرها وحفرَ على الجدار:
"مُغادرةُ أحدنا دون موعد
وأيام أخرى
سلاسل
قيود
أصوات المفاتيح
أقدام الجلاد"
لم يكنْ الحفر على الجدار سهلاً، وما كان في جعبته إلا سلك صغير عثرَ عليه في زاوية الزنزانة مخبأً، لعلَ سجيناً سابقاً أودعته الخيانة الزنزانة ذاتها كان يخفيها أملاً في الهربِ أو في الموت، أي عذاب كابده من كان هنا؟..وما كانتْ قصة إعدامه؟ هل أعدموه بحبلِ المشنقة..أم بالرصاص؟؟ ما آخر ما فكر به؟ منْ آخر منْ خطرَ في باله؟ منْ كانَ يتمنى أن يرى قبلَ أن يموت؟ وما الحلمُ الذي ُدفن في صدره قبلَ أنْ يرى النور؟ كم تكونُ الأسئلةُ عقيمةً في حضرةِ الموت؟! وكمْ تصبحُ الأحلام عديمة الجدوى؟!
هذا مكانٌ معدٌّ للموت..للخونة..للمعذبين تحتَ سياطِ جبروتِ أصحاب المعالي، وتحتَ نعالِ جلاديهم، هذا مكانٌ معدٌّ لمنْ يحبُ الوطن أكثر..بطريقةٍ لا يعترفون بها وهم يبتلعونَ أدوية التخمة ولا تشفيهم.
عادَ وأكملَ على ذاتِ الجدار مقطوعة فجيعته:
"أسماء وأسماء وأسماء
صلوات ..هتافات
وصايا..وحكايات
بالانشطوطة أم بالرصاص
آثار دم إنسان
الأجساد تغادرنا
لمح بصر"
خطرَ في باله أنه لنْ يهدرَ أيامه الباقية دون أثر، سيعلنُ الجدارَ "جمهورية للذاكرة"، سيختلقُ "أبجدية أخرى لأيام الأسبوع"، سيخلـِّـدُ "رائحة المكان" على جدارِ الزنزانة، ذلك الجدار البارد لا بدَّ له وأنْ يهزمَ برودته قبل أن يموت..لن يموتَ مهزوماً، ليسَ لأجلِ ما تبقى من أيامه، بلْ لأجلِ الخائنِ القادمِ بعده، لكيلا يرعبه تحديقُ الجدارِ الأصفر بملامحه، لئلا يعيش البردَ موتاً مسبقاً كما يفعل هو.
بدأ يكتبُ ويكتبُ شاكراً في سرِّه من أخفى ذلك السلك الصغير الذي سمحَ له بأنْ يقاوم حشرجة الموتِ حتى أخر لحظة.
كانتْ أفكاره تتدلى من رأسهِ بقوةٍ غريبةٍ، كيف يُحاكمُ وأصدقائه ممن يحاربون الفسادَ بتهمةِ الخيانة؟ بينما ينعمُ لصوصُ الوطنِ ومهربو ثرواته، وبائعو الضمائر والآثار بالنومِ على مخدةٍ من ريشٍ دونَ أنْ يجرأ مواطنٌ شريفٌ لا يجدُ قوتَ يومه على سؤالهم منْ أينَ لكمْ هذا يا أولاد ال........؟
ثم أي حقٍ يمتلكونه لكي يحاكموه ومنْ معه سراً؟ بالطبع لو ُحوكموا علانيــةً لـُفضحتْ ملفات فسادهم حتى آخر الكون، ولنشرتْ فضائحهم على شرفاتِ الحاراتِ الفقيرة، لكنهم يعلمون... قاطنو أزقة الفقرِ ومعتنقوه، ربما كانوا فقراء لكنهم قطعاً ليسوا بأغبياء، يعرفون تماماً كيف ُتعقدُ الصفقات السرية، وكم الرشاوي والمبالغ التي يتقاضاها بائعو الوطن، بالأمس كانَ واحدهم فقيراً، وكان متخماً بالشعاراتِ الوطنية، لكنه ما أن استوى على كرسيه حتى تلاشتْ الشعاراتُ من ذاكرته وحلَّ مكانها أرقام حساباته السرية في بنوك سويسرا، أي لعنةٍ تلقي ظلالها على تلك الكراسي؟ يا الله كيفَ لوطنٍ واحدٍ أنْ يحتملَ كل هؤلاء الجلادين واللصوص؟ من أين ينبتُ المخبرون على أرضه؟ كيف يتناسلون؟ هل تتمُّ زراعتهم؟استنساخهم؟ تفسيلهم؟؟..يكادُ يجزمُ أنَّ هناك رجل مخابرات جاهز لاستقبال كل طفل يولد، ربما كان بكائه غير متوافق وقياساتِ الوطنية التي يضعونها معياراً للقب مواطنٍ شريف، عندها يجب إعدام الرضيع بتهمة الخيانة.
كتبَ على الجدار مخطوطة أخرى:
"حينما أشاهد ذاكرتي
جمهورية مختفية بلون الأقمشة
فيها البغي والعاقر
أبناء فاسدون
عذروات
شرفاء..مدنسون
مقابر تحكي نفسها
وأخرى في الظل تحكي الاحتلال
ذاكرتي لا تراني".
جلسَ جانباً بعد أن نالَ منه التعب، حدَّقَ بالجدار، ُخيـِّلَ إليه أنَّ الجدار يبتسم، مرَّ في باله أنه نجحَ في مسعاه، الجدارُ يبتسم..أخيراً الجدار يبتسم بعد أن قضى طيلة فترة سجنه بانتظار إعدامه يتفادى نظرات الجدار الوقحة، قالَ في نفسه: لتهنأ أيها القادم الجديد، فالمنزل أقل وحشة الآن، والجدار لم يعدْ ناتئاً..ثم دخلَ في سباتٍ عميق بعد أن نالَ منه التعب.
حلمَ بها، أرضه التي سيعدمُ بتهمةِ خيانتها، نهضتْ واقفةً فتحولَ نهرُ الفرات إلى شعرٍ طويلٍ لها وصار الشاطئ غرتها، وارتسمتْ النخلاتُ حاجبين، وتكوَّنَ النفطُ عينين سوداوين يجللهما حزن عميق، وصارتْ أزقتها القديمة جسداً من نور، شدَّته من يده فقام واقفاً بهمةٍ لم يعدْ يعهدها في نفسهِ منذُ أنْ جربوا في جسده جميع وسائل التعذيب التي سمع بها والتي لم يسمع، ُشفيتْ ساقه، شدَّته أكثر فركضا معاً تحت دفء الشمس بخطواتٍ رشيقة عانقتْ مسافاتِ الشوق بحرارةٍ شعر بها تسري في جسده، استدارتْ حسنائه فجأة وضمته إلى صدرها، والتفَّتْ حوله حتى احتوته في قلبها، فاختفتْ تفاصيله تماماً، همست في أذنه: لا تخفْ سأخفيكَ عن عيونهم ها هنا...ستبقى في صدري مختبئاً...لن يتمكنوا من إيذائكَ ثانية..
استيقظَ صباحاً وقد ألمَّ به فرحٌ خفي، الأرضُ تدركُ زورَ التهمة التي سيُعدم بسببها، الأرضُ تعرفُ أولادها تماماً.
دقائق وسمعَ صوتَ المفتاح، دخلَ السجان وعلى وجهه ابتسامة قاسية قائلا: "أمكَ داعيتلك..جاءَ عفو عام من الرئيس بمناسبة عيد ميلاده..."
كان السجانُ يكملُ حديثه عن كرمِ الرئيس والمناسبة الجليلة التي أسعفته بالعفو قبيلَ إعدامه بأيامٍ بإسهاب، لكنه لم يعدْ يسمعه، مرَّ في خاطره صديقه الذي ُأعدم منذ يومين فقط، لعنةُ اللهِ على أمِ الرئيس أما كان بإمكانها أن تلده قبل يومين..أو ألا تنجبه أبداً؟! خرجَ السجان، ساعدَ نفسه على النهوض، أمسكَ السلكَ للمرةِ الأخيرة وكتبَ على الجدار:
"سألت سنواتي عندما مسني الضر
عن طير داوود
ريح سليمان
ألم أيوب
فنجوتُ بآية موسى
خرجت وحزني
نهراً بارداً
ألبسني التاريخ معطفه".