بقلم : وليد دقّة* ... 30.12.2011
أيها المارون بيافا زوارا كنتم أو مقيمين بها حديثا.. أيها الرسامون والمغنون ومن كتبوا بها شعرا ونثرا، عربا كنتم أو عجما، عندما تزورون يافا وتتمتعون بجمال بحرها، وتستنشقون في مينائها هواء بيروت، وطرطوس، والاسكندرية، اعلموا أنها أقرب للشام والقاهرة منها لتل أبيب.
وعندما تسيرون في أحيائها القديمة وتقع أعينكم على جوامعها وكنائسها، وتحتارون بالسؤال:
"كيف صمدت هذه الثكلى، وحافظت على جمالها وعروبتها، ولم تستسلم لأبراج تل أبيب، رغم كل ما أثقلت به من عبرانية، وما فقدته من أبناء وشهداء وأسرى ولاجئين، حافظت على مداخلها ومخارجها من دوار الساعة حتى الميناء. فأبقى، هذا العمران، أهلها يشددون على مخارج الحروف، لتظل لغة الضاد هويتهم؟"
وإذا بقيت الحيرة من نصيبكم، فاعلموا أن الإجابة على سؤالكم تكمن في قصة "حارس البحر"، التي لن تجدوها في المكتبة العربية؛ فهي قصة منعت عربيا وفلسطينيا، ويسجن كل من يحاول جمعها وتدوينها أو طباعتها، لهذا تجدوننا نهربها لكم من السجن فكرة، إذ أنه أكثر حرية من أوطان يحكمها طغاة. وهي رواية تحرج عرب السلطان ممن "ساروا باديتين"، ولم يلتفتوا كي ينسوا وينسوننا معهم يافا، ففضحتهم بصمودها، وكشفت ذاكرتها العربية عورتهم.. كما لن تجدوها في المقررات المدرسية لدائرة "التربية والتعليم" في السلطة الفلسطينية، فهي رواية تقع خارج أفق الرؤية للقاعدين في رام الله، وتحرج أولئك الذين كفوا منذ أوسلو البحث عن وطن لشعب، وصار جل حلمهم تحقيق سلطانهم بدولة، فأقاموا سلطة لا تتجاوز حدود سيادتها الفعلية، إن وجدت، مساحة يافا.
إن رواية حارس البحر أيها السادة، تفضح هذه السلطة الفلسطينية بكامل فصائلها، ومسؤوليها، ومعارضتها الشكلية، وتكشفهم كيف قابلوا الصمود والتضحية والوفاء، بالتنازل والتخاذل وعدم الوفاء.. فلا يمكن لحارس الأمن، والمسؤول عن تنسيقه إسرائيليا، أن يتجرأ فيروي لكم قصة حارس البحر، فهو لم يكن أمينا ولا أهلا كي تستعيد عروس المتوسط بطلها من السجون الاسرائيلية، فقد خذلوه المرة تلو المرة، وتركوه وأسرى الداخل (48)، يواجهون مصيرهم تماما كما تركوا يافا تواجه مصيرها بمفردها.
إن قصة حارس البحر، حافظ نمر قندس، ستسمعونها من والدته المناضلة، فاطمة المغربي، فهي تقص عليكم حكايتها، وحكايته مع المقبرة الإسلامية، والأوقاف، وجامع حسن بك، وصمود عرب يافا أمام مخططات التهويد، وسياسة تضييق الخانق لإجبارهم على الهجرة خارج مدينتهم.
فاطمة المغربي ويافا بقيتا تواجهان وحيدتين في معركة تحرير حارس البحر:
لم يكن الخامس عشر من أيار عام 1984 مجرد يوم آخر يمر في حياة أسرة نمر قندس (أبو حافظ) وزوجته فاطمة المغربي، ففي هذا التاريخ، وقبل أكثر من سبعة وعشرين عاما ونصف العام، بدأت مسيرة النضال وفصل جديد في التحدي المليء بالعذاب والألم لأسرة قدمت أعز وأغلى ما عندها، وفاء ودفاعا عن يافا، ومقدساتها، ومقابرها، وأوقافها العربية والإسلامية.
ففي هذا اليوم الذي يصادف ذكرى النكبة الفلسطينية، اعتقل حافظ نمر قندس، وانقلبت حياة فاطمة المغربي مرة أخرى رأسا على عقب، فهي التي عايشت النكبة عام 48، عاشت نكبتها الخاصة التي فقدت خلالها زوجها وابنها إبراهيم، بعد أن خطفوا من حضنها حافظ لعشرات السنين، فكان عليها أن تربي بقية أبنائها وبناتها، وأن توفر لهم إلى جانب الكرامة الوطنية والإنسانية، العيش الحر الكريم.
كانت فاطمة المغربي مثل يافا صامدة صابرة رغم الجراح، مرابطة على أرض الأجداد، لا تفارق البحر.. أو قل أصبحت يافا كفاطمة المغربي، فهما متشابهتان، وجهان لمشهد ووطن فلسطيني واحد، فكما يافا ظلت أمينة لعروبتها، بقيت فاطمة المغربي أمينة لما ضحى به ابنها حافظ من حرية وعنفوان الشباب، من أجل أن تبقى يافا عربية فلسطينية، إسلامية ومسيحية.
لقد حوكم حافظ في البداية بسبعة عشر عاما، وبعد سنوات، ومع تفجر الانتفاضة الأولى، استجاب حارس البحر، كعادة حافظ في عطائه لنداء هذه القيادة، رغم أنه هو الأسير الذي لا يمكن لومه لظروفه فيما لو لم يفعل، وقد كان بذلك يسطر صفحة أخرى جديدة من النضال لا لذاته فقط، وإنما لأسرة بكاملها. حيث اعتقلت والدته وشقيقه إبراهيم.
وكان على حافظ أن يتحمل شدة التعذيب وآلام الحزن على والدته التي أصبحت سجينة، إلا أنه تحمل وصبر صبر الصحابة والأنبياء، ولم يتأفف ولم يتذمر لحظة واحدة على مصيره هذا، فقد خبأ له القدر ما هو أشد وأصعب، فجاء خبر مقتل إبراهيم في سجن شطة الذي أحاطت ظروف قتله ملابسات غامضة، تشير إلى تورط جهات مسؤولة، لا يستبعد حافظ أنها رتبت لاغتيال شقيقه.
وما أن مرت أشهر قليلة حتى تلقى خبر وفاة والده، نمر قندس، الذي لم يحتمل جسده شدة الحزن والصدمة من مقتل ولده إبراهيم، فبقيت أم حافظ، فاطمة المغربي، وحيدة في معركتها، تتنقل ما بين مدافن الموتى ومقابر الأحياء في السجون، بعد أن أضافت محكمة اسرائيلية عشر سنوات أخرى لحكمه الأصلي.
لقد أيقن حافظ مبكرا، بعفويته وتلقائيته المعهودة، وقبل غيره من الأسرى، أن هذه القيادة التي استجاب لندائها بالأمس، لم تعد أهلاً لهذه الثقة، ولم تكن تستحق منه الوفاء بعد أن تخلت عنا كليًّا خلال إفراجات أوسلو، رغم أن الغالبية الساحقة من الأسرى لم تتفق معه في حينها، ولم تشاركه الرأي هذا، لكنّ حافظ كان قد اتخذ قراره بأن لا ينتظر"فرجهم" الذي لن يأتي، وأن يضع حدًّا لعذابات والدته، حتى لو كلفه الأمر فعل المستحيل.
وقد قام فعلاً بما يمكن أن ينطبق عليه وصف المستحيل، حين نفذ عملية هروب جماعية من السجن في وضح النهار، وتحت سمع وبصر السجانين، الذين فتحوا له بأيديهم بوابات السجن، إلى أن أحبطت العملية في اللحظة الأخيرة، بعد أن اكتشفتها إدارة السجن، حيث كانت يفصل بين حافظ والحرية خطوات، هو باب السجن الأخير.
وقد أضافت المحكمة الاسرائيلية لحكمه عامًا آخر، ليصل حكمه الإجمالي إلى ثمانية وعشرين عامًا، أمضى منها حتى الآن أكثر من سبعة وعشرين عامًا ونصف العام.
إن مسيرة حافظ ووالدته فاطمة المغربي النضالية، التي أوجزناها، والتي يحتاج كل فصل فيها، لا سيما "الهروب"، لكتاب خاص، أو ربما سيناريو سينمائي.
إن هذه المسيرة، بكل ما حملت من آلام، وآمال، وخيبات أمل، ووفاء منقطع النظير، قوبل بعدم وفاء وخذلان، لم تنل من عزيمة هذا المناضل البطل، وظل حارسا أمينا ليافا وبحرها، طوال سنوات أسره.
وها هو على موعد مع عناقها مجددا، يعانق فاطمة المغربي، الأم الصابرة، الصامدة والمناضلة المثابرة، لكن حافظ ظل يحمل غصة في حلقه، وجرحا في قلبه، وما زال، ألمه أشد من السجن وأقسى من أي ألم يحز فيه ويذبحه ليل نهار، ألم لخصه دوما بالسؤال الذي ردده طوال سنوات اعتقاله: "لماذا تخلوا عنا؟ لماذا تركونا في السجن نواجه مصيرنا لوحدنا؟"
لقد كنا أكثر الناس وفاء وعطاء، فلماذا تركوني وأهلي ويافا وحيدين؟ لماذا تركوا فاطمة المغربي تعاني وتتعذب وحيدة؟ لماذا؟