أحدث الأخبار
السبت 23 تشرين ثاني/نوفمبر 2024
لملم حريم والصبغة الميسونية!

بقلم : د. بطرس دلة ... 03.01.2012

**مع مجموعة ميسون أسدي القصصية:
*أهدتنا الكاتبة ميسون أسدي، مجموعتها القصصية التي صدرت حديثا عن مكتبة "كل شيء" في حيفا، بعنوان "لملم حريم". ولمن لا يعرف هذه القاصّة، نذكر أنها أصدرت حتى الآن عشرات القصص للكبار والأطفال وعشرات التقارير الصحفية المتنوعة، وهي تكتب بغزارة جعلت لها أسما كبيرا في عالم القصة القصيرة في البلاد. هذا إلى جانب مشاركتها في عدة مسابقات وحصلت فيها على المكانة الأولى بين كتاب قصص الأطفال، ومؤخرا حصلت على جائزة الإبداع لعام 2011، بالإضافة إلى ما كتبه ويكتبه بعض النقاد عن أدبها القصصي بإعجاب.
والحقيقة التي لا تقبل الجدل هي أن هذه الأديبة ذات إنتاج غزير وطاقات كبيرة تجعلها تتربع في مقدمة مسيرة كتاب القصة القصيرة مع مشاهير الكتاب في بلادنا وفي الخارج.. وقد يعتقد البعض أنني أبالغ فيما ذكرت ولكن مراجعة بسيطة لما كتب عنها في الشبكات العنكبوتية وفي الصحف المحلية الكثيرة تثبت صحة ادعائنا.
في مجموعتها الأخيرة "لملم حريم"، نرى -كما في سابقاتها- أن ميسون الأسدي تقف على منصة خاصة مقابلنا لتروي لنا قصصا من حياة قرانا ومدننا العربية ومن حياة ناسنا القريبين جدا.
ولو نظرنا إلى إبداع ميسون، لوجدنا أن في قصصها الشيء الكثير من التركيز والكثافة عندما تكتب نصا معينا، لذلك نجدها تسلط الأضواء أحيانا على بعض الظواهر المحلية التي نعرفها ولكننا لا ننتبه إليها مع علمنا أنه يجب مقاومتها. من هنا وجدناها تنفرد بهذه المواقف مقابل الظواهر فتقاومها وحدها. وهكذا تقف في الصف الأمامي من قضايا شعبنا لأنها كما تقول: لا يستطيع الإنسان أن يدخل رأسه في الرمال ويقول لم أر ولم أسمع ولم أقل!
**الجنس كعنصر تشويق
قصص ميسون، ليس فيها تزويق كما لاحظنا خلال قراءتنا لهذه المجموعة ولما سبقها، لأن القصص المزوقة التي تستعرض النظريات دون الاقتراب من الإنسانية ستبدو هزيلة دائما أو ذات استعارات رمزية فيأتي السرد فيها مترددا ومتقاعسا غير منفلت وبدون اندفاع نحو الهدف.
هناك بعض القصصيين يستغلون النزعة الطبيعية للقارئ فيكتبون ما يكتبون إرضاء لشهوات القارئ الجسدية، إلا أن أديبتنا إذ تكتب مستغلة الجنس كعنصر تشويق أو عنصر دافع محرك للسرد (موتيف) فهو يدعو إلى التفاؤل ولو أنه يبدو ساذجا إلى حد ما. فقصصها فيها شيء من الوجودية السارترية، لأن فيها محاولات طموحة بسبب الكم الكبير الحياتي التي تتماشى مع المقولة الشهيرة التي مفادها: "تكون القصة ناجحة بمقدار ما فيها من الحياة"! وهذا بالضبط ما تقصده كاتبتنا من وراء ذلك.
في حديث لنا مع بعض القراء والمثقفين، تبين لنا أن تفسيرهم لما تكتب ميسون في قصصها، ناتج عن ميلها إلى الجنس- الإيروتيكا. نحن نرفض هذا التحليل من خلال معرفتنا الشخصية لما تحمله أديبتنا من الأفكار العميقة والتقدمية حول المجتمع الذي تعمل فيه كعاملة اجتماعية وهي من هنا لا تقول شيئا إلا إذا كانت تؤمن به حقا.
ونحن كقراء نريد أدبا راقيا ولكننا فوق ذلك نريد حياة راقية تنعكس في أدب راقٍ. إنها كقصصية ناجحة تُكسب شخوص قصصها شيئا كثيرا من العمق أو لنقل من اللوداعية وذلك كي لا تأتي قصصها جافة وسطحية! ولجوؤها إلى الجنس هو محاولة منها لنقد الأوضاع الراهنة التي تتفشى في مجتمعنا. ولذلك فأنها تحاول دائما الخروج عن المألوف في مجتمعنا العربي لأن لديها الكثير من النقمة على هذا المجتمع الذي يظلم المرأة- من هنا جاء اندفاعها في الدفاع عن المرأة حتى في العلاقات الجنسية ولكن أحيانا بأسلوب ساخر ومبطن كما في قصة "الصفر يربح".
**نهايات مثيرة!
ميسون تكتب وتكتب وحرارة الكتابة تتأجج وتتوهج في كتاباتها بحيث تشعرك كقارئ أنها لا وقت لديها أو كأنها تعيش في حالة سباق مع الزمن. لأنها ما أن تنتهي من قصة إلا وتكون لديها الفكرة لقصة جديدة أو قصص جديدة. وهي تراوح في كتاباتها بين القصص القصيرة للكبار وبين القصص للأطفال وأنا لا أستبعد أن تقوم بكتابة الرواية لأنها تستطيع أن تفرغ كل طاقاتها المخزونة في الرواية التي تتطلب الكثير من الجهد والطاقة والمداومة. إن نصوصها تزخر بالحيوية بحيث تفجر القصة الكلاسيكية وتنتقل بنا وبشكل سريع إلى قصة من نوع آخر غير ما أعتدنا عليه. فقصصها قصيرة حقا ولكن مضامينها كبيرة وهي تضطرنا إلى الوقوف لحظات تأمل بعد انتهائنا من قراءة أية قصة من إبداعها. إنها مبدعة في بدايات القصص وأكثر إبداعا في نهاياتها التي تأتي دائما بشيء جديد ومثير بشكل خاص.
ومهم أن نضيف أن لغة ميسون في ظاهرها ليست لغة فنية، بل هي لغة تغلب عليها البساطة، ولكنها تتراكم تدريجيا وتهيئ للنهاية بشكل مدروس ودقيق، إن ما يهمها إذن هو الهدف من القصة وبلوغه أكثر بكثير مما تهمها اللغة وفنيتها. صحيح أن بعض الضوضاء تبدو واضحة من بين الكلمات كأنها تكون خلفية لما سيأتي وهذه ميزة قلما لجأ إليها المبدعون.
**الصبغة الميسونية
أخيرا، أقول: أن ميسون أسدي مصري لا تقف من الخارج عندما تأخذ حدثا معينا لتكتب عنه، بل بالعكس، فأنها تترك بصماتها على شخوص قصصها بشكل كبير ويستطيع القارئ الذكي ملاحظة مدى تدخلها لإعطاء صبغة خاصة لكل قصصها وهذا ما نسميه باسم الصبغة الميسونية أو لنكن أكثر وضوحا فنقول هو أسلوب ميسون الأسدي في الكتابة.
في تقديمه لهذا الكتاب يكتب الأديب محمد علي سعيد عن ميسون قائلا: "ميسون أسدي قاصة موهوبة أثارت الانتباه والجدل منذ قصتها الأولى، وحتى لا يتهمني أحد بالمبالغة أقول: منذ مجموعتها القصصية الأولى "كلام غير مباح"."
لنأخذ قصتها الأولى:
**"الصفر يربح"
في هذه المجموعة: اختارت الكاتبة موضوعا غريبا إلى حد ما، حيث التقت ببعض السيدات اللواتي تتباهى كل منهن بعدد المرات التي يضاجعها فيها زوجها كل أسبوع! فهذه شادية تدّعي أن زوجها يضاجعها يوميا! بينما تدّعي منال أن زوجها يضاجعها ثلاث مرات كل يوم.. ولكن منال تعود إلى شادية وتحكي لها الطرفة التالية: أن عجوزين كانا يقامران في أحد الكازينوهات. واقترح أحدهما بأن يراهن كل منهما على رقم يطابق عدد المرات التي يمضي فيها مع زوجته في الفراش أسبوعيا.. فاختار الأول الرقم ستة، أما الثاني فاختار الرقم سبعة.. دارت آلة الحظ وجاءت الكرة على رقم صفر.. فنظر أحدهما إلى الآخر وقال: لو قلنا الحقيقة لكنا ربحنا!!
هذه الإيرونيا التي تنهي فيها قصتها تحاول فيها أن تقول: إن الرجال والنساء يكذبون ويكذبون في موضوع الجنس وذلك لأن المجتمع الذي نعيش فيه يجعل للعلاقة الجنسية هالة من القداسة وكأن البطولة هي في المجامعة.
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: لماذا اختارت الكاتبة هذا الموضوع بالذات؟
نحن نعتقد أنها اختارته لأن المجتمع العربي الذي يكبت الغرائز ويمنع الحريات ويحدد السلوك الفردي تجاه الآخر و/أو تجاه الأخرى يجب التخلص منه. فرجل الشرق والعربي بشكل خاص يؤمن أن شرف العائلة يكون بين فخذي المرأة! فأي شرف هذا؟! والكاتبة تتعامل مع موضوع الجنس كما ذكرنا في محاولة منها لكسر المتعارف عليه في هذا المجال.
**"لملم حريم"
هذا العنوان هو عنوان الكتاب وهو مأخوذ من اللغة الأفغانية ومعناه الحرفي "اتحاد النساء" ولو أخذنا المعنى المباشر دون العودة إلى الأفغانية لوجدنا أنه يعني "جمع نساء"، والقصة التي أخذت منها هذا العنوان لها عنوان ثانوي وهو "قصص مسروقة من أصحابها" وكأن الكاتبة توجه القارئ بأن لا يعتقد أن هذه القصص مجرد تخيلات الكاتبة نفسها، والقصة مقسمة إلى ثلاثة أقسام:
الأول بعنوان "لملم"- وفيه تحاول الكاتبة الدخول في المفاضلة بين الرجال والنساء على لسان البطلين إخلاص وبسام ونستنتج أن معظم النساء يبالغن في التعصب إلى جنسهن عند المواجهة مع الرجال!
القسم الثاني بعنوان "لملمته"- تجمع فيه الكاتبة بين سمير الذي يجلس في المكتبة العامة وبين فادية التي تخطط وتنجح في اصطياده كزوج، وتعترف له بذلك بعد الزواج بأنها كذبت عليه.
القسم الثالث بعنوان "لملمتهم"- وتتحدث هنا عن صبية اسمها ناهد تغري الرجال الذين يتبعونها إلى بيت والديها وهناك تختلي بكل واحد منهم على حدة في غرفتها ولكنها تدّعي بأنها تحتفظ بعذريتها لزوج المستقبل! وهي محاولة أخرى لاصطياد زوجا يكون مغفلا.
**"مرجلة"
تتبع الكاتبة في هذه القصة نفس الأسلوب الذي اتبعته في القصة السابقة أي أنها تذكرنا بأن القصص حصلت فعلا لأصحابها الحقيقيين وهي أيضا مقسمة إلى خمسة أقسام:
الأول بعنوان "حبيب"- تظهر فيها العلاقة العلنية للطالبة الجامعية أحلام مع صديقها حتى أن الطلاب اتهموها بالوقاحة. لكنها لا تهتم بما يقال عنها لأنها تحب صديقها بشدة، لكن صديقها يتأثر بالإشاعات التي تطلق عليها ويتركها هو.
القسم الثاني بعنوان "وقاية"- نجد أنغام تتصل بصديقها طارق وتدعوه لزيارتها لأنها خائفة بعد أن تركتها شقيقتها لوحدها.. فيسألها طارق: هل أحضر معي واقي مطاطي؟!!
القسم الثالث بعنوان "تركيز"- فيه تلتقي سماح بالشاعر ماجد في اجتماع لتأسيس جمعية الشعراء.. وبعد عودتها إلى البيت تجد في بريدها الإلكتروني رسالة من الشاعر يقول فيها: " رأيتك بكل أنوثتك فاشتهيتك"!
وفي القسم الرابع "استجابة"- نجد لبنى التي هي عضو في فرقة الرقص تحاور الصديق نزار وتخلص بنتيجة مفادها أنها لن ترفض مصادقة أي شاب يطلب منها ذلك.. لأن كل فتاة ترفض مصادقة أحدهم، يتهمها هذا "الأحدهم" بأنها عاهرة!
وأخيرا القسم الخامس بعنوان "دعوة"- وتظهر بطلة القصة وهي صحافية تنشر تقرير هام في الصحيفة وتتصل بصديقها لتسمع رأيه في التقرير فيجيبها: "أعجبتني صورتك المرفقة بالمقالة، وكأن عينيك تدعوان الرجال إلى سريرك"!
نلاحظ في هذه الخماسية أن الكاتبة تعالج وبسخرية موقفا فيه إشكال معين ناتج عن النظرة العامة للرجال تجاه المرأة.
**"صلعت"
إحدى القضايا التي تشغل بال غالبية النساء بشكل متطرف هي أي تغيير ولو كان بسيطا قد يؤثر في جمال المرأة. والمجتمع الذي يحد من حرية المرأة هو مجتمع قاس ولا يشعر مع المرأة حتى المرأة نفسها- وهنا تتمثل بشكل الأم- لا تشفق على ابنتها لأن أخاها ضبطها وهي تجامع أحد الشباب على سطح المنزل، فقرر أن يحلق كل شعر رأسها انتقاما لما فعلته وتقف الأم راضية عما فعله الأخ لأخته!
وهنا تدخل البطلة- التي لم تذكر الكاتبة اسمها- في صراع نفسي حول إمكانية ظهورها في المجتمع وهي صلعاء. كما تصف مشاعرها إبان قيام أخيها بحلق شعر رأسها وكان شعرها مصدر اعتزاز لها لجماله!
**دفاع عن حقوق المرأة
ما وجدناه لدى كاتبتنا ميسون أسدي في موضوع الجنس هو انفتاح ممتاز ولكن فيه دفاع عن حقوق المرأة ودعوة واضحة إلى أهمية التوعية الجنسية عند الجنسين.. وفي نفس الوقت تؤكد الكاتبة أن المرأة العربية تعاني من قضايا كثيرة في حياتها الاجتماعية. فهي عندما تصف الأب- في قصة "عائدة إلى حيفا"- الذي يلجأ إلى العنف عندما تحاول ابنته السفر إلى حيفا، فتصفه بالهمجية وترى الشرار يتطاير من عينيه والرذاذ من فمه وتبالغ في وصف منظره البشع لتحيله إلى شكل حيوان خالٍ من الإنسانية، إنما تقصد بذلك التشويه لصورة الأب ومن ثم الانتقام للمرأة من المجتمع العنيف تجاهها!
لقد نجحت الكاتبة في هذه القصص بعدم اللجوء إلى "الوصف" كعامل أساسي من عوامل القصة، لأنه قد يربك إيقاع القصة ويدخل الاختلال في بنائها. ولكنها في نفس الوقت كانت تلجأ إلى الحوار القصير وذلك من أجل توضيح ملامح شخوصها وبيان الأحداث، ونحن نعرف أن الحوار الذي لا يضيف جديدا على المضامين يتحول إلى لغوٍ لا فائدة فيه. وهنا نتحدث عن الحوار لأنه يكون عاملا أساسيا في توضيح صورة شخوص وأبطال الرواية/ القصة ويساعد الكاتب على متابعة سير الأحداث واكتشاف ما يدور في خلد أبطال أو بطل القصة من مفاهيم وأفكار يحاول المؤلف دفعها إلى القارئ على ألسنة شخوص القصة.
**الفكرة هي الأهم في القصة
والمؤلفة ميسون الأسدي في هذه المجموعة لم تلجأ كثيرا إلى الحوار إلا لماما وذلك لأن القصة القصيرة لا تحتمل الإطالة كما يقتضي الحال في الحوار..
فماذا عن السرد؟؟ لقد أجادت المؤلفة عملية السرد بحيث جاءت سلسة وسريعة ولا تعثر فيها كما أنها لم تلجأ إلى السرد المطول إلا لماما وذلك عندما اقتضت الحال. ففي معظم قصص هذه المجموعة كانت حركة الأحداث سريعة دونما حاجة إلى التطويل.
وفوق ذلك، لاحظنا أنها في إحدى القصص لمّحت إلى أنها تحدثنا عن بطلة ما دون ذكر اسمها أو أسماء من يحيطون بها أو ممن تعاملت معهم.. هذا الأمر يشير إلى أن شخوص القصص القصيرة ليسوا مهمين كأفراد ولا يهم إن عرفنا أسماءهم أو جهلناها، فالاسم لدى المؤلفة ليس له شأن ولا أهمية تذكر، فالمهم هو معرفة الحدث والنتيجة وماذا تريد أن توصل لنا الكاتبة من خلال القصة.. فلو كان اسم البطل سامي مثلا أو سعيد فإن ذلك لا يزيد ولا ينقص من أهمية الحدث أما إذا كان اسمه أحمد أو حنا مثلا فمهم ذلك فعلا لأن الاسم هنا للدلالة على انتماء البطل لطائفة محددة وما يحيطها في هذا المجتمع أو ذاك.
إنها أي ميسون، تهتم ببناء قصصها بناء قويا بحيث يظهر الانسجام الواضح بين مبنى القصة وبين نسيجها. فالنسيج الواعي لكل قصة يدعم بناءها. وقد لاحظنا أن الزمكانية تلعب دورا كبيرا أحيانا وأحيانا أخرى تختفي وتكاد لا تؤثر.
وأخيرا، نحن نبارك للأديبة ميسون الأسدي صدور هذه المجموعة ونرجو لها إبداعا أوسع وأفضل في المستقبل القريب. فهي أديبة متمرسة ونحن نؤمن أن لغتها وأسلوبها في الكتابة يؤهلانها لأن تكون كاتبة روايات! هذا ما لمسناه من مختلف قصصها التي قرأناها خلال السنتين الأخيرتين!
(كفر ياسيف- /2012)