أحدث الأخبار
السبت 23 تشرين ثاني/نوفمبر 2024
الثقافة العربية عائق أمام دولة القانون!![1]

بقلم : د.فيصل القاسم  ... 20.11.2011

من حق العرب طبعاً أن يتفاخروا، وحتى يعتزوا بأنهم من أكثر شعوب العالم تواصلاً وحميّة ونخوة تجاه بعضهم البعض. وأنا أتحدث هنا على الصعيد الشعبي وليس الرسمي، فالحكام العرب يتصرفون مع بعضهم البعض كما تتصرف الذئاب، فمن المعروف أن الذئاب تخاف بعضها البعض أكثر مما تخاف من الحيوانات الأخرى، لهذا ترى قطيع الذئاب يسير في خط متوازن خشية أن يغدر أحدهم بالآخر. لهذا فالحديث منصب هنا على الشعوب وليس الأنظمة. فما زلنا نرى حتى هذه اللحظة أجمل أنواع التآزر بين الناس. فعندما يتوفى شخص في قرية عربية ما ترى كل أهل القرية يهرعون للمشاركة في العزاء. وعندما يكون هناك عرس، يسعى الجميع للمشاركة في الغناء والأفراح في الكثير من البلدان. أضف إلى ذلك أن سكان القرى وحتى بعض المدن العربية مرتبطون بصلات زواج وقربى وحسب ونسب، لهذا فهم يتواصلون بشكل لا بأس به، ويتابعون أخبار بعضهم البعض، بما في ذلك طبعاً اغتياب بعضهم البعض أيضاً. لكن على الأقل فهم على تواصل معقول. ومن السهل أن ينتشر خبر ما حتى في بعض المدن العربية حول هذا الشخص أو ذاك، أو حول هذه العائلة أو تلك. فما بالك بالقرى العربية التي ما زال معظمها يحافظ على وحدته الإنسانية من حيث اهتمامه بكل ما يجري في القرية سلباً أو إيجاباً. لكن أرجو ألا يفهم البعض أن سكان القرى والمدن العربية متحدون حتى العظم، وهم كالبنيان المرصوص. لا أبداً، فهم يكرهون بعضهم البعض، ويحبون بعضهم البعض كالأوروبيين والأمريكيين، وربما أكثر قليلاً. لكنهم على عكس الأجانب، ما زالوا أكثر تواصلاً وتماسكاً واحتكاكاً ببعضهم البعض من غيرهم من أمم الأرض.
صحيح أن المحافظة على أواصر الحسب والنسب والقربى والجيرة أمر مهم للغاية في عالم اليوم الذي راحت تحل فيه وسائل الاتصال الحديثة من إنترنت وموبايل وفضائيات وغيرها محل العلاقات الاجتماعية التقليدية. فكما نلاحظ الآن فإن العالم يتجه إلى مجتمع (الأس أم أس)، أي الاستعاضة عن التواصل الاجتماعي المباشر بالاتصال الإلكتروني واللاسلكي، مما راح يقضي على المجتمعات التقليدية الجميلة التي كانت تؤازر بعضها البعض في السراء والضراء وجهاً لوجه. ناهيك عن أن الحياة المدنية حتى في بعض البلدان العربية قضت على المجتمع المتآزر إنسانياً، ففي كثير من الأحيان، يمكن أن يتوفى جارك في الشقة المقابلة دون أن تعرف أو حتى تهتم بخبر وفاته. ويمكن أن يحدث لجارك مكروه دون أدنى اهتمام منك. فكما أن الثورة الصناعية قضت على علاقات الإنتاج الزراعية القديمة حيث كان الناس يتعاونون ويلتقون فيما بينهم لأن نمط الإنتاج كان يحتم عليهم التلاقي والتعاون. وكما أن تلك الثورة قسمت العمل، وجعلت حتى العمال في نفس المصنع لا يلتقون أو لا يتعرفون على بعضهم البعض، فإن الحياة المدنية أضرت كثيراً بالمجتمعات التقليدية حتى في بلادنا المتقدمة على غيرها في التواصل الإنساني، فما بالك في الغرب الذي تعيش معظم شعوبه في عزلة عن بعضها البعض.
وأتذكر أنني لاحظت في يوم من الأيام أنا جاري العجوز في إحدى ضواحي لندن لم يعد يعمل في حديقته منذ مدة، فظننت أنه مسافر، فتبين لي لاحقاً أنه توفي منذ أسابيع دون أي ضجة تذكر أو أي اهتمام كبير حتى من أقربائه وأبنائه، فلم نسمع بكاء، ولا نحيباً، ولم نشاهد حتى مظاهر عزاء. فقد تم الأمر وكأن شيئاً لم يحدث. لماذا؟ لأن الغرب فقد أواصر التواصل الاجتماعي منذ ثورته الصناعية، ناهيك طبعاً عن تأثير المدينة على نمط الحياة. لكن حتى في القرى الغربية، نادراً ما يكون هناك تواصل كامل بين كل سكان القرية، بدليل أن التواصل يبقى محصوراً في الدوائر العائلية الضيقة جداً، هذا إذا حصل أصلاً. فهناك أبناء لا يزورون أمهم وأباهم إلا ربما في عيد الميلاد، وربما لا يزورونهما إلا مرة كل سنتين أو ثلاث. وذلك على عكس الوضع في بلادنا حيث ما زال هناك تواصل عائلي واجتماعي ممتاز بالمقاييس الغربية.
لكن "الحلو ما يكملش" كما يقول المثل الشعبي المصري الجميل. فكما أن التواصل الاجتماعي في عالمنا العربي فيه جانب إنساني افتقدته مجتمعات أخرى، إلا أنه أسهم ويساهم بشكل مرعب أيضاً في عرقلة وإفساد دولة القانون التي وصلت إليها المجتمعات الغربية وغيرها، وأصبحت بفضلها في طليعة العالم. صحيح أن الاحتكاك الاجتماعي أمر إيجابي ويحافظ على اللحمة الشعبية والإنسانية، إلا أنه أدى إلى التخلف وتأخير بناء دولة القانون في الكثير من بلادنا العربية بفعل الحسب والنسب والمحسوبية وصلات القرابة والصداقة، فقد تم استغلال تلك الأمور الإيجابية لأغراض سلبية للغاية.