بقلم : هيثم محمد أبو الغزلان ... 26.04.2012
ليس صعباً ربط ما يطرحه د. سري نسيبة من أفكار يسميها "جديدة"، بما طرحه صديقاه عرابا ومهندسا اتفاقات أوسلو، الوزير الإسرائيلي السابق يوسي بيلين، ورئيس الوزراء الفلسطيني السابق أحمد قريع، وجميعها اتفقت على انسداد أفق عملية "السلام"، وانغلاق نافذة الفرصة لإقامة الدولة الفلسطينية، أو قرب انغلاقها. والبدائل لحل الدولتين، كما يقول بيلين وقريع في صحيفة "ذي غارديان" (25/4/2012)، هي استمرار وتعميق الوضع الراهن، أو حل الدولة الواحدة الذي يرفض منح المساواة لأقلية يتزايد عدد أفرادها بسرعة، ـ مع أن نسيبة يخالفهما الرأي هنا حين يعتبر أن حل الدولة الواحدة مستحيل ـ، وبحسبهما أو حل دولة ثنائية القومية، رعاياها متساوون قد لا تظل لفترة طويلة يهودية الطابع.
وما يهمنا هنا هو مناقشة ما طرحه نسيبة في (صحيفة «لونوفيل أوبسرفاتور» الفرنسية، (5/4/2012،) ونشرته مترجماً صحيفة الحياة اللندنية،(18/4/2012)، تحت عنوان: (حل الدولتين عقيم والدولة الواحدة مستحيلة.. وتبقى الفيديرالية المدنية)، واعتبر نسيبة فيه أن حل الدولتين بات حلاً مستحيلاً لا يمكن تنفيذه على أرض الواقع، طارحاً فكرة جديدة تتمثل بالفيديرالية المدنية عبر التعايش مع الإسرائيليين و"هو ليس مستحيلاً على شرط ألا تقوم دولة واحدة – وهذا ما يُجمع الكل على رفضه – وألا تقوم دولتان – وهذا ما انتهى إلى الفشل. فإذا تبنينا حلاً ثالثـــاً ينهض على نوع من سيطرة متقاسمة ومشتركة، أو فيديرالية دولتين، فقد يذلل الحل الاستحالة" بحسبه.
أما قلب هذا المقترح فهو " زيادة حقوق الفلسطينيين المقيمين اليوم في الأراضي المحتلة"، وإعطاءهم "الحقوق المدنية"، دون السياسية. إذاً الفكرة قائمة على تقاسم الإسرائيليين والفلسطينيين الأرض، والتنقل بحرية والتمتع بالخدمات المشتركة: الصحة والتربية والأمن والقضاء.
وسري نسيبة، كما بات معروفا، برز اسمه بعد وثيقة نسيبة- أيالون في (2/9/2002)، وتضمنت ما أسمياه "حل وسط تاريخي، يقوم على مبدأ دولتين سياديتين دائمتين تعيشان الواحدة بجانب الأخرى.. واعتراف الشعبين، اليهودي والفلسطيني، كل واحد بالحقوق التاريخية لغيره على الأرض نفسها".
وبحسب نسيبة فإن استمرار الوضع الذي طرحه قد "يلد مناخاً مؤاتياً للسلام. وتدريجياً، تتحول السلطة الفلسطينية دولة تحظى باعتراف الأمم المتحدة. ويقيم مواطنو الدولتين بأرض إقليمية واحدة، مع هويتين وطنيتين مختلفتين ومؤسسات سياسية منفصلة. وفي مقدورهم، إذا شاؤوا بعد وقت، الارتباط في إطار فيديرالية".
بكل وضوح يطرح نسيبة، وللأسف ما يسميه حلاً، بعد استيلاء إسرائيل على مساحة 78 بالمائة من فلسطين، وتجاوزها للحل الذي طرحته الأمم المتحدة عام 1947 القاضي بتقسيم فلسطين إلى دولتين؛ 54 بالمائة للإسرائيليين و 45 بالمائة للفلسطينيين والباقي للقدس وفق القرار 181، و22 بالمائة من مساحة فلسطين، التي قبل بعض الفلسطينيين التفاوض بشأنها عمل الإسرائيليون فيها استيطاناً وتقطيع أوصال وتهويد، لفرض أمر واقع مستند إلى قوة التفوق الإسرائيلي ديمغرافياً وعسكرياً وتكنولوجياً واستخبارياً وسياسياً واقتصادياً، والهدف تكريس الاحتلال أكثر، وبالتالي جعل إقامة الدولة الفلسطينية حلماً بعيد المنال عن التحقيق، لأن المشروع الاستيطاني لم يُبقِ من الأرض ما يمكن أن يسمح بإقامة دولة، ولعل عقد مؤتمر مستوطني الليكود مؤخراً في إحدى مستوطنات رام الله بحضور عدد من وزراء الحزب والمطالبة بضم الضفة الغربية إلى إسرائيل يعكس مدى سيطرة فكرة التفوق الأمني والحفاظ على أمن إسرائيل.
ولا يمكن فصل ذلك عن فكرة الدولة اليهودية التي يسعى القادة الاسرائيليون لتكريسها وتعميقها. فمنذ (16/7/2003)، اتخذ الكنيست الإسرائيلي بناء لمشروع قرار قدمه أعضاء كتلة الليكود؛ وتمَّ تشريعه بعد التصويت عليه، قراراً يتركز حول ضرورة تعميق فكرة "يهودية الدولة" وتعميمها على دول العالم، ومحاولة انتزاع موقف فلسطيني بجانب القرار المذكور، وتضّمن القرار إشارات إلى أن الضفة الغربية وقطاع غزة ليستا منطقتين محتلتين، لا من الناحية التاريخية، ولا من ناحية القانون الدولي، ولا بموجب الاتفاقيات التي وقعتها «إسرائيل».
وبات مصطلح «يهودية الدولة» يمثل في الآونة الأخيرة جوهر الغايات الأسمى والأهداف الكبرى لـ«إسرائيل»، وتحولت مقولة «الدولة اليهودية» بصورة غير مسبوقة ولا معهودة إلى القاسم المشترك بين مختلف التيارات والكتل والأحزاب والاتجاهات السياسية والاجتماعية والثقافية في إسرائيل.
ويلتقي ما طرحه نسيبة بما طرحه الباحث في «مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي»، "ناثان جي براون"، عن التعايش المؤقت، إذا عجز الإسرائيليون والفلسطينيون عن التوصل إلى ترتيبات دائمة مقبولة من الطرفين لأجل العيش إما منفصلين وإما سويا، عبر اتفاق يُمكّنهم من العيش معاً على أساس يومي. فبدلاً من التفاوض في شأن اتفاقية لحل جميع خلافاتهم، بإمكان الإسرائيليين والفلسطينيين التوصل إلى نوع من الترتيبات الهادفة إلى تجنب النزاع المباشر والعنف. وبدلاً من تحقيق المصالحة التاريخية، يمكن أن يكون الهدف إقامة استقرار أشبه ما يكون باستقرار الحرب الباردة.
وأرى أن أخطر ما في طرح نسيبة هو سعيه لما سماه في طرحه ما "يوفر لهم ـ للإسرائيليين ـ، ضمانات أمنية أقوى من ضمانات الجدار"، الذين لم يرفعوه ـ أي الجدار ـ، "توخياً لحماية أمنهم ولا لاختطاط حدودهم - فهم يرون أن نهر الأردن هو حدودهم الشرقية -، بل للتعويل على خط انسحاب وتراجع في حال اضطروا إلى قبول حل الدولتين في نهاية مفاوضات معنا".
وهذا يتلاقى مع ما نشره معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، في تقرير إستراتيجي مطلع شهر كانون أول 2010، تحت عنوان: "الأمن أولاً.. الأولويات الأمريكية في صنع السلام الإسرائيلي الفلسطيني"، لكاتبه "مونتجمري ميجس"، الأستاذ المتخصص في العمليات الإستراتيجية والعسكرية ببرنامج الدراسات الأمنية، بمعهد "إدموند والش" للخدمة الخارجية بجامعة "جورج تاون" الأمريكية. وينطلق من فكرة أساسية مفادها: أن السلام في الأراضي الفلسطينية سوف يتحقق في حالة واحدة فقط؛ عندما يستطيع الفلسطينيون تحمُّل مسؤولياتهم الأمنية الكاملة، ويكون لدى إسرائيل الثقة التامة في قدرتهم على القيام بهذه المهمة، وأن الاعتقاد السائد بأن قضايا اللاجئين ووضع القدس وحدود الدولة الفلسطينية باعتبارها العقبات الرئيسية أمام التوصل إلى اتفاق سلام بين الجانبين هو أمر خاطئ، أو على الأقل غير كامل. فتثبيت الأمن على المدى الطويل هو العامل الحاسم في التوصل لحل لهذا الصراع، فالأمن فقط هو القادر على إعادة الثقة بين الجانبين.
ويضيف التقرير "لكن الخلاف بين الطرفين، الفلسطيني والإسرائيلي، يتمحور حول تحديد معاني ودلالات مفهوم الأمن، فالإسرائيليون يرون أن الأمن يعني قيام السلطة الفلسطينية بكل الجهود لمنع "الهجمات الإرهابية" ضدها، واعتقال كل المشتبهين فيهم وعقد المحاكمات لهؤلاء، وضرب معاقل "الإرهاب"، ومنع كافة أشكال الدعم من الوصول لهم، أما بالنسبة للفلسطينيين فيعني الأمن إنهاء الاحتلال الإسرائيلي؛ لأن قوات الأمن الفلسطينية لن تتمكن من القضاء على "الإرهاب" إلا إذا كانت هناك دولة فلسطينية قائمة".
وهذا يقودنا إلى أن مركزية الأمن بالنسبة لإسرائيل يجعلها تضعه في أعلى أولوياتها؛ فعلى الرغم من توقيع إسرائيل لاتفاقياتٍ مع دول عربية، منها مصر فقد ورد مفهوم الأمن والترتيبات الأمنية عدداً قياسياً من المرات في معاهدة "السلام" المصرية- الإسرائيلية. وعلى مسارات التفاوض التي بدأت في مدريد، وضعت إسرائيل قضية الأمن (أمنها) على طاولة المفاوضات بقوة. وفي عهد حكومة الليكود في الفترة 1996 ـ 1999، حددت إسرائيل شرطها الرئيسي للسلام بتحقيق أمنها المطلق. وفي عهد حكومة إيهود باراك، الذي فاز على سلفه بنيامين نتنياهو في انتخابات أيار/مايو 1999 المبكرة تحت شعار (إسرائيل واحدة)، تمت صياغة المفهوم الأمني بـ (الأمن والسلام) بدلاً من (الأمن أساس السلام)، ويجري تفسير الشعار (الأمن والسلام بـ (السلام الآمن(. ويمكن القول إن المبرر الأساسي لنشأة الدولة الإسرائيلية هو تحقيق الأمن والأمان لليهود.
وأخيراً إن ما نخالف به في حقيقة الأمر دعاة الحل هؤلاء أن أي مشروع يتم تقديمه لإنهاء الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي، ويستند إلى تقديم تنازل عن أي جزء أو أجزاء من أرض فلسطين، محكوم بالفشل: "اتفاقات أوسلو، تقرير ميتشيل وبعدها خارطة الطريق ووثيقة جنيف، وثيقة بيلين ـ نسيبة.."، فجميع هذه المشاريع ولدت وهي تحمل بذور فنائها، ولا يمكن التعويل عليها، ولكن كشف زيفها وارتباطاتها يبقى عاملاً مساعداً في الدفع لقطع الطريق على أية مشاريع تصفوية جديدة قد يعمل على ابتكارها أصحاب العقول التي تفتقت عن ذهنية لا تقبل ما يسمونه العنف والإرهاب وندعوه المقاومة...