بقلم : نقولا ناصر* ... 16.05.2012
لم يعد مقبولا سياسيا أو أخلاقيا من أي معارضة تقول إنها سورية أن تظل صامتة بينما لا يجد مهربا من إدانة الإرهاب في سورية كل من ادعى احتضانه لها
شلت الأيادي التي تمارس الإرهاب في سورية وفي غيرها، وشلت الألسن التي تدافع عنه أو تجهد نفسها في البحث عن مسوغات له، فهو إرهاب تتبرأ منه حتى الميكافيلية السياسية التي تسوغ الوسيلة المرفوضة أخلاقيا بالغاية المقبولة سياسيا، لأنه إرهاب مرفوض كوسيلة بينما غايته في تدمير الدولة السورية بحجة "إسقاط النظام" فيها على الطريقة العراقية والليبية مدعاة لرفض أقوى.
إن المراقب لم يعد بحاجة إلى أمثال تقرير "دير شبيغل" الألمانية في آذار / مارس الماضي لإثبات وجود الإرهاب والإرهابيين في سورية، فمشاهد الموت والدمار التي خلفها صباح الخميس الماضي خامس تفجير إرهابي في العاصمة السورية منذ كانون الأول / ديسمبر عام 2011 المنصرم، وشهادات دولية مثل شهادة وزير الدفاع الأميركي ليون بانيتا في اليوم ذاته، تغني أي مجتهد عن أي بحث عن أدلة، وتغنيه عن إثبات أن "القاعدة" هي التي تمارسه أم غيرها.
لكن هذه الحقيقة التي أصبحت ساطعة كالشمس تقتضي من أي معارضة تدعي أنها وطنية المبادرة إلى سحب أي غطاء شعبي يتستر الإرهاب وراءه كدرع بشرية بحجج شتى مثل إدعائه أنه الذراع المسلحة لثورة شعبية،أو ادعائه بحماية المدنيين، فقد أصبح تجريد الإرهاب من أية حجج كهذه استحقاقا عاجلا لم تعد المعارضة قادرة على التنصل منه، فالارهاب يتخذها غطاء، ويعمل كفصيل منها.
وربما يوفر اتفاق الحكم والمعارضة على عزل الإرهاب ومحاربته قاسما مشتركا يوفر بدوره أرضية موضوعية للبدء في حوار وطني يحرص الإرهاب ومن يدعمه على أن لا يبدأ أبدا، وقد أصبح التواطؤ مع الإرهاب أو الصمت عليه، مثل استدعاء التدخل الأجنبي أو الاستقواء به والصمت عليه، خطا وطنيا أحمر يصم أي معارضة تمارسه بالانتهازية السياسية الرخيصة.
فالإرهاب الأعمى الذي لم يفرق بين موال وبين معارض، وبين عسكري وبين مدني، لم يكن أعمى سياسيا عندما فجر أجسام الأنفس التي حرم الله قتلها في دمشق نهاية الأسبوع الماضي، بل كان مفتوح العين والعقل، ولم يكن مغلقا فيه سوى الضمير الوطني والانتماء القومي والحس الانساني، لأنه إرهاب يفتقدها جميعا.
بريان فيشمان، الباحث في مؤسسة أميركا الجديدة (نيو أميريكا فاونديشن) المتخصص في "الجماعات الجهادية" كتب مؤخرا يقول إن "الديموقراطية، من وجهة نظرهم، هي ديانة لأنها تؤكد سيادة الانسان" بينما هم يرون أن السيادة لله وحده. إن من يدقق في الأهداف السياسية للإرهاب في سورية لن تفوته حقيقة أن من أهم أهدافه استباق وإجهاض أي "ديانة ديموقراطية" تقود الإصلاح والتغيير باتجاه دولة مدنية ديموقراطية حديثة، وحرمان الحكم الذي تبنى هذا الاتجاه والمعارضة والشعب جميعا من أي مهلة لتحقيق ذلك، ويؤكد هذا الهدف دعم دول عربية هي بواقعها وطبيعتها مستعصية على أي إصلاح مدني وديموقراطي.
إن إدانة هذا الارهاب من "أصدقاء" وأعداء الشعب السوري على حد سواء، في إجماع نادر من المجتمع الدولي المنقسم بسبب الأزمة السورية، يضع أي وكل معارضة سورية أمام اختبار صدقية فاصل تاريخيا، سوف تحكم نتيجته عليها أو لها، لتحجز موقعا لها في شراكة وطنية باتت مكفولة دستوريا وقانونيا وسياسيا أو يغيبها التاريخ طي النسيان.
إذ لم يعد مقبولا سياسيا أو أخلاقيا من أي معارضة تقول إنها سورية أن تظل صامتة بينما لا يجد مهربا من إدانة الإرهاب في سورية كل من ادعى احتضانه لها، من الأمين العام لجامعة الدول العربية ومنظمة التعاون الاسلامي ومجلس الأمن الدولي، والأمين العام للأمم المتحدة، ومنتدبها لوقف "العنف" في سورية كوفي أنان، والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي ومنه بريطانيا وفرنسا وألمانيا وغيرها ممن يدعون أنهم "اصدقاء سورية"، إلى تركيا التي تحولت إلى حاضنة وداعمة ومصدرة لهذا الإرهاب، وقطر التي دعت إلى تسليح المعارضة وتمول أسلحتها ومسلحيها، ناهيك عن أصدقاء سورية في روسيا والصين وإيران وغيرها من دول مجموعة "بركس".
كما لم يعد مقبولا سياسيا أو أخلاقيا الصمت أو الشجب الخجول العربي الرسمي والشعبي. وعلى سبيل المثال، فإن صمت سلطة الحكم الذاتي الفلسطينية وحكومتها عن إدانة تفجيرات سورية في دمشق وغيرها يسلط الأضواء على حقيقة أنها لم تفوت تفجيرا واحدا ضد المحتلين الإسرائيليين دون إدانته. إن من يصمت اليوم عن إدانة الإرهاب في سورية يفقد شرعيه أي دفاع له حاليا أو مستقبلا عن إدانته للإرهاب في اي قطر عربي آخر.
إن الحجج المتهافتة البائسة لادعاء بعض المعارضة السورية، مثل جماعة الإخوان المسلمين، بأن التفجيرات الإرهابية هي من صنع "النظام" لم تعد تقنع أحدا، ومن هذه الحجج أن الإرهاب يستهدف قوى الأمن والجيش. لكن قتل عناصر الأمن وجنود الجيش، وهم مواطنون وسوريون، في بلد لا يزال في حالة حرب مع دولة الاحتلال الإسرائيلي وارضه محتلة يصبح جريمة مضاعفة.
وللمقارنة، فإنه باستثناء "دولة العراق الإسلامية" التي نقلت "مقاتليها" إلى سورية أملا في "دولة" مماثلة فيها، لم تتردد المقاومة العراقية في الإدانة المتكررة للإرهاب المماثل، وخصوصا الجبهة الوطنية والقومية والإسلامية وحزب البعث وجبهة الجهاد والتغيير وهيئة علماء المسلمين المعارضين للنظام المنبثق عن الاحتلال الأميركي، بالرغم من إدانتهم لهذا النظام بممارسة الإرهاب، وكذلك المرجعية الشيعية العليا المؤيدة له.
إن إعتراف بانيتا وغيره من أركان الإدارة الأميركية بوجود "القاعدة" في سورية، واستدراكه بأنه لا معلومات لديه عن "نشاطاتها" هناك، هو استغباء يقصد منه بصورة واضحة التعمية على الحاضنة الأميركية السياسية والاستخبارية والمالية والإعلامية لهذا الإرهاب من ناحية، والتهرب من ضرورة إعادة النظر في التصنيف الأميركي لسورية ك"دولة داعمة للإرهاب" من ناحية أخرى.
غير أن إمعان واشنطن في المكابرة برفض الاعتراف بفشل سياستها الخارجية تجاه سورية التي أدخلت القاعدة والإرهاب إليها يحول الولايات المتحدة إلى دولة حاضنة وداعمة للإرهاب فيها.
ففي ذات اليوم الذي وقع فيه تفجيرا دمشق كان بانيتا، وإلى جانبه رئيس هيئة الأركان المشتركة مارتن دمسي، "يحث على تنحي الأسد"، وفي اليوم السابق فقط كان رئيس لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ جون كيري يقول إن "الولايات المتحدة بحاجة إلى تصعيد تدخلها في سورية" من أجل إقامة "مناطق آمنة" فيها وتسليح المعارضة، وكان مساعد وزيرة الخارجية الأميركية جفري فلتمان يبلغ لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب بأن التغيير في سورية "لا يمكن أن يحدث دون تخلي (الرئيس بشار) الأسد عن السلطة"، ويبلغ اللجنة السابقة بأن "سياستنا هي محاولة تسريع الوصول إلى النقطة التي ترجح سقوط" الرئيس السوري.
ولأن توازن القوى الدولي الجديد الذي افرزته الأزمة حول سورية وفيها قد استبعد التدخل العسكري الغربي المباشر، يظل الإرهاب هو الوسيلة الوحيدة المتاحة للولايات المتحدة من أجل "تسريع الوصول إلى النقطة التي ترجح سقوط" الرئيس السوري كما يتمنون.
لقد حذرت افتتاحية للواشنطن بوست في العاشر من الشهر الجاري من ثلاث تطورات نتيجة لهذه السياسة، أولها حرب طائفية حذر منها أيضا مؤخرا الأمينان العامان للأمم المتحدة بان كي-مون والجامعة العربية نبيل العربي، وثانيها استفادة القاعدة ومثيلاتها من الفوضى الناجمة عن هذه السياسة، وثالثها "التهديد الأخطر" لامتدا الحرب الطائفية إلى دول الجوار السوري. وسرعان ما وجدت الصحيفة أدلة تثبت صدق تحذيرها في تفجيرات القزاز بدمشق في اليوم ذاته، ثم في انفجار الاقتتال في مدينة طرابلس اللبنانية الشمالية.
لقد وصفت "معاريف" الإسرائيلية قوة القصف الإعلامي الأميركي لسورية بأنه "لم يسبق أن وجه إلى أي عدو للولايات المتحدة". ولوحظ أن هذا القصف لم يتوقف حتى في إدانة التفجيرين، فالبيت البيض الأميركي يقول في إدانته للتفجيرات إنها "نتيجة القتل العشوائي للنظام"، وبان كي-مون ووزير الخارجية البريطاني وغيرهما يحثون "السلطات السورية" على وقف إطلاق النار من جانب واحد، فهل أوقفت الولايات المتحدة إطلاق النار من جانب واحد بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر الارهابية أم شنت "حربا عالمية على الإرهاب" لا تزال مستمرة، وهل شن الولايات المتحدة للحروب على العرب والمسلمين واحتلالها المباشر أو بالوكالة الاسرائيلية لأراضيهم يمكن اعتباره مسوغا لتلك الهجمات ؟