بقلم : الشيخ حماد أبو دعابس* ... 19.05.2012
لولا النسيان لظلَّت تخيِّم علينا النكبات والمآسي, السابقة واللاحقة ولما عرفنا طعماً للفرحة , فالنسيان إذاً نعمةٌ من نعم الله على عبده , ليستقيم أمر الحياة وليستمر موكبها المتقلِّب بين عُسر ويُسر , وبين سراء وضراء . ولولا الذاكرة لكنا شعباً بليداً , منقطعاً عن ماضيه , لا يعيش إلا لحظته , ولا يتصل بتاريخه , فلا نكباته تستفزُّه , ولا انتصاره يُعزُّه , ومن لم يعتدَّ من ماضيه لحاضره فلا مستقبل له . الأمر الذي يفرض علينا أن نحيي ذكريات شعبنا الأليمة , وبذلك نفعِّل ذاكرتنا الجماعية , ونستمدُّ منها قوة للانطلاق نحو بناء مستقبل يمسح آثار نكباتنا ونكساتنا وهزائمنا . وبالمقابل , تصغر جراحنا الصغيرة , وآلامنا الشخصية،فنقف عندها بحدود ما يقضيه الأمر دون مبالغة ولا إفراط . فحدادنا على موتانا حدده الشرع ثلاثة أيام ( إلا حداد المرأة على زوجها) . فإذا قدَّر الله تعالى وفاة عزيز لنا , يجب أن يكون حزننا معتدلاً . ولنتذكر كم من القتلى والشهداء الذين يسقطون في شوارع سوريا وقبلها في ليبيا واليمن , ثم العراق وأفغانستان وغيرها من البلاد الإسلامية, لا تنصب لهم خيمة عزاء , ولا يقدم لأهل الفقيد عزاءٌ ولا غذاء , في ظل انعدام الأمن والاستقرار .
إحياءٌ للنكبة وتحيةٌ لصمود الأسرى
عشية ذكرى النكبة الفلسطينية الرابعة والستين , استبشرنا بالاتفاق الذي ابرمه الأسرى مع سلطات السجون الإسرائيلية , والذي حققوا من خلاله معظم مطالبهم التي أعلنوا من اجلها الإضراب عن الطعام , وهكذا هي نكهة المشهد الفلسطيني , وقرابة ألفي أسير يخوضون إضرابا عن الطعام لعشرات الأيام . ليحققوا انجازاً على مستوى ظروف اعتقالهم . وليس الإفراج عنهم , إن السجن سيء , والأسوأ منه هو السجن الانفرادي , والسجن الإداري على غير تهمة ومحاكمة . ومنع زيارات الأهل . فيضطر السجناء إلى الذهاب إلى حد الكارثة . وهي أسوا من الأسوأ لكي يعودوا إلى السيء , وعليه فإنها فرحة ممزوجة بحسرة، وفرحة لا تكتمل إلا بفكاك جميع الأسرى من قيود السجن . كأني بها فرحة ينبغي أن نعيشها بعقولنا لا بعواطفنا , لان الذي انتصر في هؤلاء المعتقلين هو إرادتهم وكرامتهم وعنفوانهم , ولمَّا تنتصر بعد حريتهم , ويومئذ تكتمل فرحتنا وفرحتهم بإذن الله تعالى . هكذا كانت المشاعر المزدوجة عندما انتهت الحرب على غزة عام 2009
فالمقاومة تعلن انتصارها , رغم سقوط 1400 شهيد , ورغم الدمار الكبير الذي تكبده القطاع في المباني والبنى التحتية , وسبب الابتهاج هو بقاء شوكة المقاومة , وصمود القطاع أمام محاولة اعادة الاحتلال وإسقاط حكومة حماس , إنها إذاً , انتصارات مشوبة بالآم , لها طعم مميز ورونق خاص يصعب على غير أبناء هذا الشعب وهذه الآمة أن يتفهموه .
أفراحنا في ظل استشراء العنف
دخل موسم الإعراس , وكثرت المناسبات السعيدة , ولا يكاد بلد أو حي من أحيائنا إلا وله نصيبه من هذه المناسبات . ولكن إلى جانب ذلك فان تفاقم ظواهر العنف والقتل في وسطنا العربي , تطغى على أغلبية مناسباتنا وأفراحنا , فتذهب رونقها وجمالها , وتفقدها طعمها وبهاءها . وأصبحنا نزور القرية أو المدينة لنغزِّي في طرفها ونهنئ في طرفها الآخر . بل حتى حوادث الوفيات الطبيعية التي لا غنى عنها ولا مناص منها , فإنما تزاحم الأفراح والمناسبات السعيدة وهذا شيء طبيعي . ولكن غير الطبيعي أن تسود البلادة , وسوء التصرف , وانعدام التقدير والاحترام بين أبناء البلد الواحد . فإذا قدر الله تعالى اجتماع حادث وفاة ومناسبة عرس في بلد أو حي , فعلى الأقل ينبغي لأصحاب العرس مراعاة مشاعر جيرانهم ، وأبناء بلدهم من أهل المصاب , فلا يرفعوا أصوات المكبرات الصوتية , ولا يطلقوا العيارات النارية والمفرقعات ( التي لا لزوم لها أصلاً ) , إن ذلك في تقديري مراعاة لبلوغ تقدير الآخرين واحترامهم , وفيه حفظ لهيبة أهل البلد والقرية والمدينة , بل والشعب بكاملهم .
فتعالوا بنا نتواضع في أعراسنا , ونراعي مشاعر غيرنا ونسهم في الحفاظ تماسك نسيجنا الاجتماعي الذي هو آخر ما تبقى لنا في هذه البلاد .
الموازنة بين الاهتمام بأمور العامة وحياتنا الخاصة
العظماء وذوو النفوس الكبيرة , تذوب شئونهم الخاصة في اهتمامهم بقضايا الآمة الكبرى . فقد حرم صلاح الدين الأيوبي نفسه الضحكة ، بل الابتسامة ، بسبب استمرار احتلال المسجد الأقصى من قبل الصليبين . والإمام حسن ألبنا رحمة الله , جاءه خبر الحالة الحرجة التي بلغها ابنه , في خضم التزامات دعوية لا يمكن تأجيلها ، فقال من ابلغ الخبر , إذا مات الصبي فان جده يعرف الطريق إلى المقبرة .
ونحن أبداً لا نطالب أهلنا وأحبابنا بمثل هذه المثاليات. ولكننا على الأقل كشعب نحب أن تقف شعوب الأرض إلى جانب حقنا ونضالنا المشروع , حريٌّ بنا أن نهتمُّ لأمر المسلمين , ونتأسّ لأساهم وأحزانهم , ونشاركهم على الأقل الدعاء والنصرة المعنوية . ومن هذا الباب , ينبغي أن نوفر أو نختصر كثيراً من مظاهر المفاخرة والبطر , والاستعلاء على الآخرين , بفعل ما لا يقدرون على فعله . ونكتفي بمشاعر الشكر لله على نعمة وفضله , فيكون فرحنا وابتهاجنا شكراً لله واعترافاً بفضله ويتجنب الإسراف والمبالغة والمخاطرة , ونقتصر على إظهار الفرحة ، وإعلانها بالشكل الذي يتلاءم مع قيمتنا وأخلاقياتنا مستشعرين مشاعر شعبنا وامتنا وجيراننا .
ولله الأمر من قبل ومن بعد