بقلم : نقولا ناصر* ... 16.06.2012
**(الأمم المتحدة مهيأة موضوعيا وواقعيا الآن لاستقبال الملف الفلسطيني وهي فقط بانتظار قرار استراتيجي من قيادة فلسطينية تقرأ بواقعية مستجدات الوضع الدولي وتعمل على أساسها)
عندما سعى مفاوض منظمة التحرير الفلسطينية في أيلول / سبتمبر الماضي إلى انتزاع اعتراف من الأمم المتحدة بدولة فلسطينية على حدود ما قبل العدوان الإسرائيلي عام 1967 ثم بعضوية هذه الدولة في الهيئة الأممية تحطم مسعاه على صخرة "الفيتو" الأميركي.
في خضم المعركة الدبلوماسية التي خاضها المفاوض آنذاك، اقترح الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي دعم ذاك المسعى إذا اقتصر على اعتراف الأمم المتحدة بدولة غير عضو فيها، مثل الفاتيكان. وضيع مفاوض المنظمة تلك الفرصة. لكنه عاد ليتبناها الآن. غير أن فرانسوا أولاند خليفة ساركوزي في قصر الاليزيه تبنى الموقف الأميركي وتخلى عن موقف سلفه وأبلغ الرئيس محمود عباس الذي زاره في باريس يوم الجمعة الماضي: "يجب أن نفعل كل شيء لتسهيل الاعتراف بدولة فلسطينية عبر عملية تفاوضية".
لقد أخطأ مفاوض المنظمة في حساباته فضيع فرصة دعم فرنسي لاقتراح فرنسي في حينه وأخطأ ثانية في حساباته عندما فشل في انتزاع تجديد الدعم الفرنسي لاقتراح لم يعد قائما كما أثبتت حصيلة زيارة عباس الأخيرة للعاصمة الفرنسية.
واليوم يبدو مفاوض المنظمة على وشك تضييع فرصة موافقة الجمعية العامة للأمم المتحدة على اقتراح ساركوزي حتى دون دعم فرنسي، فهو يلوح بالذهاب إلى "الجمعية العامة لنحصل على ما يطلق عليه اسم دولة غير عضو"، كما قال عباس في باريس، لكن فقط "إذا لم تنجح كل المساعي للعودة للمفاوضات"، كما أضاف، وبالتالي فإنه لا يزال يعطي الأولوية لاستئناف المفاوضات مع دولة الاحتلال الاسرائيلي، ويلوح بالذهاب إلى الأمم المتحدة كأداة يعتقد بأنها ضاغطة عليها وعلى راعيها الأميركي لاستئناف مفاوضات يبدو مفاوض المنظمة كمن يستجديها.
وقد سارعت الإدارة الأميركية خلال الأسبوع الماضي إلى ممارسة سياسة "العصا والجزرة" لاستغلال الموقف المتردد لمفاوض المنظمة في نقل الملف الفلسطيني إلى الأمم المتحدة واستغلال تردده في التخلي نهائيا عن استراتيجية المفاوضات الثنائية برعاية أميركية مع دولة الاحتلال التي أثبتت فشلها طوال العشرين عاما المنصرمة.
فعلى ذمة وكالة أنباء "شينخوا"، هاتفت وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون عباس مساء الثلاثاء الماضي كي "تحذره" من "النتائج السلبية" للذهاب إلى الأمم المتحدة "من جانب واحد" وهو ما "تعارضه" إدارة الرئيس باراك أوباما، كما قال مسؤول في مكتب عباس للوكالة. ومع أن وكالة "وفا" قالت باقتضاب إن عباس وكلينتون "تباحثا في إحياء عملية السلام" فإن وزير خارجية السلطة الفلسطينية برام الله رياض المالكي أكد وجود "ضغوط كبيرة" من واشنطن وقال إنها طلبت من عباس تأجيل التوجه للأمم المتحدة إلى ما بعد الانتخابات الأميركية. وكان المستشار السياسي لعباس، نمر حماد، أكد بأنه "لم يعد سرا أن الإدارة الأميركية تمارس كل قواها ... ليس ضد ذهابنا للأمم المتحدة فقط بل لأية منظمة دولية". ثم أعلنت واشنطن أنها سوف ترسل مبعوثها الرئاسي ل"عملية السلام"، ديفيد هيل، ليمارس الضغط وجها لوجه و"يضع القيادة الفلسطينية في صورة المخطط الذي وضعته بلاده لتحريك عملية السلام وإطلاقها من جديد".
ولتعزيز قدرتها على إجهاض أي توجه فلسطيني للأمم المتحدة، نجحت إدارة أوباما في "انتخاب" سفير دولة الاحتلال لدى الأمم المتحدة، رون بروسور، نائبا لرئيس الجمعية العامة في دورتها السابعة والستين عندما تفتتح في أيلول / سبتمبر المقبل، المفترض أن يتقدم مفاوض المنظمة خلالها بطلب الاعتراف بدولة فلسطينية غير عضو في الأمم المتحدة. ثم نجحت يوم الاثنين الماضي في "تعيين" اليهودي الأميركي جيفري فيلتمان، المسؤول عن شؤون الشرق الأوسط في الخارجية الأميركية منذ عام 2009، مساعدا للأمين العام للأمم المتحدة بان كي – مون ورئيسا لدائرة الشؤون السياسية في الأمانة العامة، وهذه دائرة مركزية في بيروقراطية الأمم المتحدة ومن يرأسها سوف يكون له نفوذ كبير في تحديد جدول أعمال المنظمة الأممية.
غير أن هذا الاختراق الأميركي "الفردي" للأمم المتحدة لم يستطع حجب الهزيمة الدبلوماسية النكراء التي منيت بها الولايات المتحدة في الجمعية العامة عندما فشلت في إيصال مرشحها، سفير ليتوانيا البلطيقية لدى المنظمة الأممية داليوس تشيكيوليس، إلى رئاسة الجمعية العامة في دورتها السابعة والستين المقبلة، وقد فاز برئاستها وزير خارجية صربيا الشاب، 36 سنة، فوك جيريميك الذي يشغل منصبه منذ خمس سنوات بأغلبية 99 صوتا ضد 85 صوتا لصالح منافسه المرشح الأميركي الأوروبي، ولأن الاقتراع كان سريا فإنه يمكن التكهن فقط بأنه كان أيضا مرشح دولة الاحتلال الإسرائيلي وحلفاء أميركا العرب.
وجيريميك، الذي سيخلف السفير القطري ناصر بن عبد العزيز النصر في رئاسة الجمعية العامة التي تناوبت على رئاستها قطر وسويسرا وليبيا ونيكاراغوا ومقدونيا خلال السنوات الخمس الماضية، كان مدعوما من روسيا والصين والهند والبرازيل واندونيسيا ومجموعة "بريكس" وحركة عدم الانحياز.
وتتضح الأهمية الاستراتيجية لانتخاب جيريميك وهزيمة المرشح الأميركي في كون تنافسهما كان أول معركة دبلوماسية بين الأطاب الدوليين منذ انهيار الاتحاد السوفياتي السابق قبل حوالي عشرين عاما عندما انفرد القطب الأميركي الأوحد بصنع القرار الدولي. فقد جرت العادة خلال العقدين الماضيين من الزمن أن تتوافق كل مجموعة إقليمية على اختيار ممثل لها في رئاسة الجمعية العامة عندما يحين دورها بالتناوب لرئاستها. وكانت رئاستها للدورة المقبلة لمجموعة دول أوروبا الشرقية.
ويمثل انتخاب جيريميك وهزيمة المرشح الأميركي ثاني صفعة دبلوماسية تتلقاها الولايات المتحدة الأميركية في الأمم المتحدة خلال أقل من عام بعد "الفيتو" الروسي – الصيني المزدوج الذي تكرر مرتين في مجلس الأمن الدولي لاجهاض مشاريع قرارات أميركية – أوروبية للتدخل العسكري الأجنبي في سورية بتفويض من الأمم المتحدة.
بعد انتخابه قال جيريميك، الذي كتب أحدهم بأن مجرد ذكر اسمه أمام أي مسؤول أميركي أو أوروبي كبير "يمكنه أن يطلق موجة من السخط غير الدبلوماسي": "نحن بلد نامي صغير لا ينتمي إلى حلف عسكري (ناتو) أو اتحاد سياسي (الاتحاد الأوروبي)".
وتبدو صربيا اليوم كمن يعود إلى سياسة الحياد الايجابي وعدم الانحياز التي كانت يوغوسلافيا السابقة من مؤسسيها وكمن يتعافى، مستقويا بالمستجدات الدولية، من العدوان الذي شنه عليها حلف الناتو بقيادة الولايات المتحدة عام 1999 وقاد إلى انفصال كوسوفو الذي أقسم جيريميك على عدم الاعتراف باستقلالها. وكان لافتا للنظر أن تستضيف بلغراد العام الماضي المؤتمر الوزاري لحركة عدم الانحياز احتفالا بمرور خمسين عاما على تأسيس الحركة مع أن صربيا لم تعد عضوا فيها بل عضوا مراقبا فقط، وأن لا ترسل ممثلا عنها إلى الإحياء السنوي لذكرى "الهولوكوست" مع أن جيريميك كان مضيف أفيغدور ليبرمان كأول وزير خارجية لدولة الاحتلال الإسرائيلي يزور صربيا ووقع معه اتفاقية تلغي التأشيرات بين الدولتين، وأن تقاطع حفل منح جائزة نوبل للسلام في أوسلو قبل عامين لمنشق صيني لأن "جمهورية الصين الشعبية هي أحد أعمدة أربعة لسياستنا الخارجية" كما قال جيريميك.
إنه عالم متحرك متغير حقا. وتخطئ المنظمة ومفاوضوها في حساباتهم مجددا إن لم يغتنموا الفرص التي تتيحها المتغيرات الدولية. فالهزيمتان الأميركيتان الدبلوماسيتان في الأمم المتحدة تمثلان مؤشرين لا تخطئهما العين السياسية إلى أن زمن القطبية الأميركية الأحادية قد ولى إلى غير رجعة، وإلى أن المجتمع الدولي ينفتح الآن على عالم جديد متعدد الأقطاب.
إن الجمعية العامة للأمم المتحدة مهيأة موضوعيا وواقعيا الآن لاستقبال الملف الفلسطيني، ولمنح اعتراف بدولة فلسطينية غير عضو، وهي فقط بانتظار قرار استراتيجي من قيادة فلسطينية تقرأ بواقعية مستجدات الوضع الدولي وتعمل على أساسها، لتطلب لاحقا الاعتراف بها كدولة عضو على أساس شرعية قرارات الأمم المتحدة نفسها وبخاصة قرار الجمعية العامة رقم 181 لسنة 1947 الذي تستمد منه دولة الاحتلال شرعيتها وشرعية اعتراف الكثير من الدول بها، وليس فقط دولة بحدود وقف إطلاق النار عام 1949.
غير أن مفاوض المنظمة لا يزال مترددا في الانعتاق من ارتهانه لاستراتيجية تفاوضية مبنية على أحادية القطبية الأميركية ولم يقرر بعد أن يتحرك مع حركة التاريخ في عالم متحرك متغير، فهو منشغل في "أفكار موضوعة هدفها ترتيب عقد لقاء" بين عباس وبين رئيس وزراء دولة الاحتلال بنيامين نتنياهو كما قال ياسر عبد ربة أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، مما يشير إلى أن "الواقعية" التي طالما اتخذها حجة لارتهانه للأحادية الأميركية قد أصبحت واقعية عمياء لا ترى مستجدات الوضع الدولى التي تفتح أمامه مرحلة جديدة وفرصا جديدة عليه أن يسارع إلى اغتنامها ولا يضيعها.
لكنها بالتأكيد مرحلة جديدة تتطلب استراتيجية وطنية فلسطينية جديدة وقيادة جديدة ومرجعيات جديدة للتفاوض ومفاوضين جدد.