أحدث الأخبار
السبت 23 تشرين ثاني/نوفمبر 2024
رحلة ابن رشيد:الرحلة البيلوروسية في عهدين!!

بقلم : رشاد أبوشاور  ... 07.02.2012

من فضائل نشر كتب الرحلات التي نشطت في السنوات الأخيرة، أنها بدأت تجتذب بعض الكتاب، والشعراء، والأدباء، والصحافيين..العرب، وتحفزهم لكتابة رحلاتهم في بلاد الله الواسعة، شرقا، وغربا، وهو ما يعّرف القارئ العربي بتلك البلاد، ويوسع من رؤيته، وينشط رغبته في السفر..فالماء الراكد يأسن، كما قال أجدادنا..فسافر تتجدد، وكتب الرحلات هي في جوهرها سفر.
تعيدنا كتب الرحلات هذه إلى زمن جدنا ابن فضلان صاحب الرحلة الشهيرة، والمغامرة العجيبة بعد أسره في بلاد (الفايكنغ)، التي دفعت بعد قراءتها الروائي اليهودي المجري آرثر كوستلر لتصحيح رؤيته ـ هو الذي بدأ حياته شيوعيا، ثمّ ارتد وانحط فاعتنق الصهيونية، وكتب انطلاقا من عنصرية صهيونيته المقيتة والمنحطة روايات وكتبات ضد الفلسطينيين والعرب ـ بعد أن اطلع على حقيقة من هم يهود أوربة الأشكناز، اعتمادا على رواية جدنا ابن فضلان، فتراجع عن قناعاته، وأنكر على يهود الكيان الصهيوني أنهم ورثة اليهود القدماء...
ابن فضلان روى في (رحلته) كيف اعتنق إمبراطور الخزرج اليهودية، وفرضها على شعبه، ومن ثم انهارت تلك الإمبراطورية، فتفرّق (يهودها) في أوربة الغربية، والشرقية..وكانت تلك المعلومات الموثقة قد سبقت ظهور الصهيونية الأوربية، واليهودية الصهيونية بقرون، وهذا ما زعزع قناعات كوستلر، ودفعه لتغيير رأيه، والتخلّي عن عنصريته في آخر أيام حياته، قبيل انتحاره بسنوات!
كتب الرحلات من زمن ابن فضلان الرائد، ألهمت من جاءوا بعده، فتغرّبوا عن أوطانهم وذويهم، حبا بالمعرفة، ورغبة في الاطلاع على حياة البشر الذين نتقاسم وإياهم العيش المشترك على هذه الأرض، ورغبة في التحاور مع من تجمعنا بهم الإنسانية الواحدة. أليس هذا ما فعله ابن بطوطة، وابن جبير، وغيرهما من الرواد العرب؟!
صديقي الدكتور فايز رشيد ابن مدينة قلقيلية الفلسطينية العريقة، الكاتب السياسي، والقاص، والروائي، والباحث، والطبيب الذي تخرّج من موسكو، ومن بعد من جامعة مينسك في روسيا البيضاء (بيلا روسيا)، عاش حياة زاخرة، غنية، وعاصر تحولات تاريخية عن كثب: صعود وانهيار الاتحاد السوفييتي، وتفكك الدول الاشتراكية التي دارت في فلكه لعقود.
فايز رشيد طبيب يعالج الجسد الإنساني، بإيقاظ الطاقة العصبية والنفسية ـ بواسطة الوخز بالإبر الصينية..وهو اختصاصه بعد أن أنهى الطب العام ـ وإرادة المقاومة في البدن.
فايز كاتب يتميّز بجدية البحث، ووضوح الموقف، وهذا ما يلحظه قرّاء مقالاته في الصحافة العربية، وفي مقدمتها 'القدس العربي'، ورقة المشاعر التي تتجلى في قصصه القصيرة في مجموعتيه اللتين أصدرهما واطلع عليهما القرّاء المتابعون، وروايته (وما زالت سعاد تنتظر) التي صدرت في العام الماضي 2011.
بعدته الفكرية، والأدبية، وبمعايشته للأحداث، ومعرفته العميقة ببلاد درس وأقام فيها لسنوات، وأتقن لغتها، وقرأ أبرز منجزات كبار كتابها، وشعرائها، وشاهد تحولاتها عن قرب، يكتب رحلته هذه متمثلاً رحلة جده ابن فضلان، وراميا إلى تحقيق هدفها بنقله لما رأى بصدق ودقة وبراعة الكتابة التي تمتع وتفيد.
تبدأ رحلة ابن رشيد من قلقيلية، وتحديدا من مدرستها، ومن شوارعها، وبياراتها..ثمّ من مواجهة الاحتلال بعد العام 67، ومن تجربة السجن لعامين 1969-1970 في سجون نابلس، طولكرم، بيت ليد..ومن بعد الترحيل إلى عمّان، ثمّ السفر إلى موسكو لدراسة الطب في جامعة (الصداقة بين الشعوب: باتريس لومومبا)، حيث تخرّج عام 1979 ليعود إلى الأردن، ويفتتح عيادة في مخيم (شنلر) القريب من العاصمة الأردنية عمّان.
يغادر ابن رشيد الأردن إلى بيروت، وهناك يتزوج المناضلة البارزة ليلى خالد، وتمتزج حياتهما معا رحيلا معاناة، وبهجة بإنجاب طفلين ينموان في كنفهما، ويتخرجان من الجامعة شابين طموحين مقبلين على الحياة.
يشارك فايز رشيد الطبيب والمناضل في معركة بيروت 1982، ولا يشغله الانهماك في تضميد الجراح عن كتابة شهادته على وحشية المعتدين الصهاينة، وبسالة الناس البيروتيين، والفلسطينيين، والعرب المشاركين في المصير والمعركة..دفاعا عن بيروت، ويصدر كتابه بعد الرحيل عن بيروت (والجراح تشهد: مذكرات طبيب في زمن الحصار).
عاش فايز رشيد في روسيا البيضاء (بيلا روسيا) قبل انهيار الاتحاد السوفييتي، ومنظومة الدول الاشتراكية، و..عاد إليها ليجدد ويطوّر اختصاصه بالعلاج بالإبر الصينية..وكان ذلك البلد قد تشبث (بالاشتراكية) بعناد، وواجه العواصف، وظلت قيادته على قناعتها رغم كل ما تعرضت له من حملات، ومحاولات إسقاط.
فايز رأى وعايش هذا الوضع، واقترب من الناس، وحاول فهم كيف يفكرون، وإلى أين يتطلعون، وماذا يريدون، ومدى تأثير المتغيرات من حولهم على حياتهم..ونقل كل هذا في رحلته (البيلاروسية) التي كتبها بسرد روائي مشوّق وممتع.
الطبيب، والكاتب، والمثقف فايز رشيد معني بالإنسان، ولذا فهو يقف أمام التفاصيل الصغيرة الغنية بالدلالات، يتأملها، ويجذب القارئ إليها لمشاركته في التأثر بها..حزنا، وألما، وفرحا..وأحيانا سخرية!
إذا كانت جوانب كثيرة في حياة فايز رشيد مأساوية وداكنة، فإنه بروحه الصلبة يتجاوزها، بحيث نراه فرحا رغم تلك الأحزان الثقيلة، وهنا سر ديمومة تحمله، وتعلمه، وعطائه ..وحبه للناس، وبخاصة أبناء وطنه المنكوبين المعذبين الذين يعيشون في المخيمات.
برحلة ابن رشيد (البلاروسية) تعرفنا ببلد لم نكن نعرف عنه سوى اسمه الذي يجعلنا نظن أنه مجرد جزء من روسيا ليس إلاّ، وبهذا عرفنّا ببلد جديد..وبناس كنا نجهل من هم..وهذا بعض ما تمنحه لنا كتب الرحلات، ومنها رحلة ابن رشيد الطبيب والكاتب الذي أحب الأوطان التي عاش فيها، وتعلم فيها، وعرف ناسها..في رحلته الطويلة المريرة إلى وطنه فلسطين، حيث قلقيلية مسقط الرأس ومهوى القلب والروح.

*صدرت 'الرحلة البيلوروسية' عن منشورات الدار العربية للعلوم ـ ناشرون..بيروت، العام 2012.