بقلم : رشاد أبوشاور ... 25.10.07
ينشدون في الطائرة: بلاد العرب أوطاني، فبلاد العرب في هذا الزمن صارت أوطان السيرلنكيات، والفلبينيات، والروسيات اللاتي تعلّمن الرقص الشرقي في الشرق الأوسط الجديد الراقص علي إيقاع زيارات وأوامر كوندوليزا، شرق الغافلين عن تقسيم العراق، والمشاركين بصمت، أو بالعلن، بهمّة عجيبة، في تصفية قضية فلسطين، وتشتيت شعبها.
الفلسطينيون المرحلون إلي البرازيل، صدّوا بحدود عاتية لا تفتح في وجوههم، حتي لا ينتشر فيروس فلسطين، وما أدراك ما فيروس فلسطين، هم الذين طاردهم الشعوبيون، وعملاء الموساد، في بغداد، حتي الحدود التي لم تفتح ذراعيها لاستقبال الأخوة في العروبة والإسلام!
الفلسطينيون في الطائرة رحلوا واجمين، إذ كيف ستتعلم الأم الفلسطينيّة العجوز وهي في هذا العمر اللغة البرتغاليّة ـ لغة البرازيل ـ لتبدأ حياةً جديدة في ذلك البلد الأمريكي اللاتيني البعيد ألوف الأميال عن فلسطين التي ولدت فيها قبل 73سنة؟!
وماذا ينتظر تلك الصبيّة التي لم تكمل دراستها الثانوية، والتي كانت تحلم بأن تتخرج مهندسة من جامعة بغداد، كليّة الهندسة، أحدث كليّة هندسة في الشرق الأوسط، راسمة مخططا أوليا للبيت الذي ستبينه علي أرض جدّها في (أم الزينات) بعد العودة، مهما طال الزمن؟!
وهل سيلتقي (يوسف) بحبيبة قلبه، هو المرحّل مع أسرته إلي السودان؟أين في السودان؟ كردفان!. هل سيذوي حبّهما، وينهي البعد والقنوط، كل أحلامهما بمكان آمن يستأنفان فيه حياتهما، ودراستهما، ويبنيان فيه أسرةً بعد أن ينهيا دراستهما الجامعيّة ـ ليس لبنان بالتأكيد، فهناك الفلسطيني غير مسموح له بالعمل، ولكن بالموت جوعا وقهرا ـ وكعادة الفلسطينيين يسهمان في محو الأميّة في بلاد العرب، مواصلين رسالة من سبقوهما من نساء ورجال فلسطين!
من دارفور هربت أسر سودانيّة، ودخلت إلي فلسطين المحتلّة، واستقبلت، واستخدمها الكيان الصهيوني في حملة دعاوية (إنسانيّة) يضرب فيها عدّة عصافير بحجر واحد، بروباغندا مفضوحة ملعوبة جيّدا، بينما الفلسطيني يرحّل إلي البرازيل، والسودان، و...
دول الجامعة العربيّة كلّها تتحدث عن مآثرها تجاه فلسطين وشعب فلسطين، وتتنافس في سرد كشف حساب عن تلك التضحيات، ولكنها مجتمعة ومنفردة وقفت متعاجزة ـ لأن موقفها مفتعل، انصياع لأوامر ـ تتفرّج علي الفصل الجديد من مأساة عرب فلسطين!
كل أكاذيب نظم الحكم الإقليميّة يفضحها العذاب الفلسطيني المتعمّد، الذي غايته دفع الشعب الفلسطيني للقبول بأي حل تقترحه الإدارة الأمريكيّة، والكيان الصهيوني .
ماذا سيحدث لو استقبل الأردن أو سوريّة بضع مئات من الفلسطينيين المنكوبين؟ هناك ملايين العراقيين في سوريّة، والأردن، والسعوديّة، وليبيا، واليمن و..حتي بلاد المغرب العربي الكبير.
المطلوب هو تعذيب الفلسطينيين، تيئيسهم، تعجيزهم، إفقادهم كل أمل، تكفيرهم بعروبتهم، دفعهم للتنازل عن حقّهم في وطنهم، إفقادهم الأمل من إمكانية العودة ما داموا يشحنون إلي البرازيل، وقفار السودان ـ يشكر السودان علي تجاسره استقبال بضع مئات ـ التي تبقي رغم المخاطر هناك أقرب إلي فلسطين، فبينهم وبين وطنهم مصر فقط!
سوف يشار إلي فلسطينيي البرازيل: من أصل فلسطيني، بعد جيل واحد ..وفي بلاد العرب يراد من الفلسطيني أن يكون بلا أصل، بلا هوية، بلا انتماء، بلا روح، بلا عقل يفكر ويميّز ويختار ويحاكم ويحاسب و..ولذا شحن الفلسطينيون المنكوبون إلي البرازيل ليعيشوا هناك مع بقايا الهنود الحمر!
أربعة أعوام والفلسطينيون التعساء الفارون من الموت الطائفي، من وحشية الخونة والعملاء، وهم يعيشون تحت الخيام في (مخيّم ) الرويشد علي الحدود الأردنيّة العراقيّة إلي أن انتهي الأمر بتوزيعهم علي البرازيل والسودان و..أمكنة ما خطرت لهم ببال! .
وعلي الحدود السوريّة ما زالت أسر فلسطينيّة تعيش تحت الخيام، لا يسمح لها بالدخول إلي سوريّة، وهناك حوالي 59 فلسطينيا سمح لهم بالدخول قبل بضعة اشهر، طلب منهم أن يغادروا إلي الحدود العراقيّة، ولم تنجح وساطات قيادات فصائل المعارضة الفلسطينيّة في إبقائهم!
أهذا هو دعم نضال وكفاح وجهاد الشعب العربي الفلسطيني؟!
هل سيتسبّب هؤلاء الفلسطينيون بأزمة غذائيّة اقتصادية لو سمح لهم بعبور الحدود الأردنيّة والسوريّة نجاةً من مناجل الموت الطائفي المسعور؟! أهم مشكوك في عروبتهم ويشكلون خطرا أمنيّا؟! هناك أكثر من مليون عراقي يقيمون في سوريّة، فلماذا لا تفتح دمشق حضنها العربي لتخفف معاناة هذه الأسر المنكوبة؟! ماذا جري للحارة الشاميّة التي عهدناها قلب العروبة، التي ياما فتحت ذراعيها وقلبها لكّل عربي، ولم تغلقه في وجه أحد، اللهم سوي فلسطينيي العراق؟!
كيف يمكن أن تعقد مؤتمرات تتمسّك بحّق العودة، ومواجهة سياسات التفريط، في كنف دمشق، بينما بضع مئات من الفلسطينيين يرمون تحت الخيام منذ سنوات في حرمان، وقلق من تفشّي الأميّة بين أبنائهم وبناتهم، وهم بلا مدارس، ولا جامعات؟!
بحسب ما أعي، فإنه لا يوجد بلد عربي مشرقي تعامل مع الفلسطيني بأخوّة خالصة، فالفلسطيني دائما متّهم، منبوذ، مميّز ضده، مأكول مذموم ...
من المؤلم أن القيادات الفلسطينيّة رسميّةً ومعارضة، تنافق وتجامل هذه الأنظمة، وتمتدحها ليل نهار، وتسبّح بحمد أفضالها ومآثرها، بينما أهلنا يموتون في مخيمات الحدود، ولا يجدون سوي البرازيل تشفق عليهم بلفتة إنسانيّة بعد تدخّل جهات دولية.
هذا الذي يحدث للفلسطينيين ليس بريئا، ولا مصادفا، إنه مقصود، يهدف إلي دفع الفلسطينيين للقبول بالتوطين، نعم: القبول بالتوطين، والتنازل عن حّق العودة.
ستنجح هذه الفعال في مراكمة عذاب شعبنا، ولكنها لن تكسر روحه، وستبقي حيّة في الذاكرة، فكّل دمعة فلسطيني، وكّل لحظة ألم، وكل ساعة معاناة وغربة ..لن تنسي، والأيام بيننا، ففلسطين هي الباقيّة، وهي النار التي جمرها يتأجج تحت الرماد، ونحن نري هذه النار التي حذّر منها شاعر حيفا أستاذنا حسن البحيري:
وفلسطين لم تكن لعبة اللاعب
فقل لي: جمرها كيف يلمس؟!
نار فلسطين قادمة: العرب الغرباء في أوطانهم، المقهورون المغيّبون في بلادهم، سيحملون شعلتها التي لن تنطفيء، لأنها كلمة السر لتخطّي عصر الانحطاط العربي الذي بلغ حضيضه.