بقلم : خالد الحروب ... 25.10.07
«ما ترجم الى العربية من عهد المأمون وحتى الآن لا يتجاوز ما تترجمه أسبانيا كل عام»: عبارة صدمت الوعي الثقافي والفكري العربي عندما تضمنها أول تقارير الأمم المتحدة للتنمية الانسانية العربية في سياق تناوله لغياب مجتمع المعرفة في المنطقة العربية. تلك العبارة الجبروتية ظل صداها المخجل يرن بما تحمله من حقيقة مرة، رغم استبسال من حاولوا التقليل من قيمة ذلك التقرير والتقارير التي لحقته وبرروا تردينا الداخلي بشماعة التدخل الخارجي ومؤامراته وحسب. والتركيز على الترجمة لا يأتي اعتباطاً فهي واحدة من ركائز أي نهضة، وهي الجسر الذي لا مناص عنه للعبور الى ضفاف معارف الثقافات والحضارات الأخرى. وعندما يتقطع هذا الجسر تبهت أنوار التثاقف والتلاقح الفكري ويضمحل معها التحدي الدائم بالمواكبة والمنافسة. لا يحتاج أي متأمل في تاريخ الحضارات والنهوض كثير جهد لادراك مركزية الترجمة في احداث السيرورات الحضارية.
الترجمات الاغريقية واليونانية والفارسية والهندية أغنت الثقافة العربية الاسلامية وأدخلت الى الفضاء العربي مبتكرات وانتاجات وأفكار ثقافات تركت آثاراً كبيرة في تشكيل وعي وعلم ومعرفة المجتمعات العربية الاسلامية ونخبها. واذا كان العباسيون قد توسدوا مكانة رفيعة في التاريخ فان أحد أهم أرائكهم فيه كان بيت الحكمة في بغداد والذي ترجم أمهات كتب الفلسفة الأغريقية والفارسية والهندية. وذات الترجمات، بنسخها العربية، المطورة والمنقحة والمزيدة، كانت هي طوق نجاة أوروبا من عصور ظلامها. ولو لم تترجم أوروبا ما صدر عن الحضارات التي سبقتها ثم تنطلق منها وتبني عليها لكان للعالم وجه آخر هذا اليوم. وهذا اليوم أيضاً تقوم حضارة ونهوض جنوب آسيا وشرقها (وفي مقدمة ذلك الصين واليابان والهند) على حركة مد مذهلة في الترجمة، بحيث تترجم المعارف والعلوم الصادرة في أهم الميادين والجغرافيات على وجه السرعة وحتى لا تكون هناك أية فجوة زمنية بين انطلاق معرفة جديدة وانخراط تلك المجتمعات فيها، ثم في اقتباسها وهضمها وتطويرها والمنافسة فيها.
عربياً وفي أعقاب العبارة القاسية والمريرة المشار اليها في مستهل هذه السطور التي لطمنا بها تقرير التنمية الانسانية تحركت أفكار وجهود عدة، وتسارعت مؤسسات لتحاول سد الثغرة وجسر الهوة الكبيرة بين واقعنا، في ظل المثال الأسباني، وماضينا، في ظل المثال «المأموني». على المستوى الأهلي كانت «المنظمة العربية للترجمة» في بيروت جهداً ابداعياً وريادياً خلال السنتين الماضيتين، وقد أشرفت على ترجمة مجموعة بالغة الأهمية من الكتب المرجعية من الانجليزية والفرنسية. وتمتاز كتبها المترجمة بالدقة واللغة الرفيعة والطباعة السهلة. أما على مستوى آخر وأكثر جرأة وطموحاً فلعله بالامكان الاشارة الى الاستعدادات لاطلاق «مؤسسة كلمة» للترجمة بمبادرة من هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث. فبحسب الأدبيات الشارحة لأهداف وطموحات المؤسسة فان الغاية الأولى والأساسية ترجمة أكبر عدد ممكن من الكتب الصادرة سنوياً باللغات الأخرى الى اللغة العربية. وسوف تبدأ المؤسسة بترجمة مائة كتاب كل سنة، ثم تضاعف من ذلك لتصل الى ثلاثمائة كتاب. وستقوم المؤسسة برعاية ودعم الترجمات ومساعدة الناشرين في نشرها، كما ستساهم في تطوير وتثوير قطاع الترجمة في المنطقة العربية بشكل عام. ولأن عالم الكتب والنشر والقراءة هو عالم فقير في بلداننا العربية فان قيام مؤسسة تتصدى لمهمة اغنائه وتكون ذات أهداف كبرى وطموحة وتتعدى ما هو متعارف عليه يصعب أن تكون ربحية أو تتوخى تأسيس استثمار ناجح. ولهذا فان ما يبعث الأمل بنجاح واستمرارية «كلمة» هو كونها مؤسسة لا تسعى للربح بل قائمة على قناعات الادارة الشابة والنشطة عليها ورصدها لموارد كبيرة مالية وادارية لانجاحها. اذا نجحت هذه المؤسسة، ومنظمات الترجمة العربية الأخرى، في التحدي الكبير الذي تتصدى له فانها ستستحق بعد عدة سنوات وساماً مكتوب عليه: «شطبنا العبارة الجبروتية» المذكورة في تقرير التنمية، وما عاد بامكان أحد أن يستخدمها أو يشير اليها!
بيد أن النجاح المأمول له اشتراطات عديدة تتخطى توفر الموارد المالية وحسب، وربما من المهم في هذا السياق الاشارة الى أهم تلك الاشتراطات، أو ما يرد على هذه السطور على أقل تقدير. الاشتراط الأول: ضمان نوعية ومستوى الترجمة وعدم المساومة عليها. وهذا الاشتراط الأول والأساسي مدفوع بسقف الكمية العالي الذي تضعه «كلمة» هدفها لتحقيقه كل عام، أي مائة كتاب. وهو مدفوع أيضاً بواقع ترجمة غير مطمئن في العالم العربي، من حيث رداءة النوعية، ورخص الانتاج واستعجاله، وسوى ذلك مما يقضى على العمل الأصلي. ومعنى ذلك أن هناك حاجة الى مائة مترجم محترف من اللغات الانجليزية والفرنسية والأسبانية والألمانية (وربما اليابانية والصينية والفارسية والهندية ولغات أخرى) كل عام. ويلحق بهؤلاء المترجمين عددا مثلهم أو ضعفهم من المدققين والمحررين الذين يتقنون تلك اللغات أيضاً. وهؤلاء جميعاً تلزمهم ادارة تحرير يقظة وسريعة تشرف على خط انتاج كثيف ومتعدد المسارات. الاشتراط الثاني هو ضمان نوعية العناوين المختارة للترجمة، وتنوعها، وتعدد مشاربها ولغاتها. وهنا لابد من الاشارة الى ضرورة الانتباه لما يصدر خارج اطار الفضاءين الانجلوفوني والفرانكوفوني. فنحن، في غالبيتنا الكاسحة، لا نعرف ماذا يصدر من معارف في اليابان والصين والهند وآسيا، سواء تكنولوجياً أم ثقافياً وفكرياً واجتماعياً. ولأن جوانب مهمة من التجربة التاريخية والواقع الاجتماعي في تلك المناطق تتشابه مع تجارب وواقع المنطقة العربية يصبح لزاماً علينا قراءة ما يحدث هناك قراءة واعية ومدركة. بل أقرب من تلك الجغرافيا من الضروري أن تتم ترجمة بعض ما يصدر في تركيا وايران وهما الجارتان الأقرب للمنطقة العربية لكن الأبعد من ناحية الفهم الثقافي الوثيق. كم هي الكتب الفارسية والتركية التي تترجم للعربية كل عام؟ الاشتراط الثالث متعلق بالتنسيق مع مؤسسات الترجمة الأخرى التي قامت حديثاً أو الموجودة قديماً في البلدان العربية، وذلك لتفادي ازدواجية الترجمة والانتاج. وهنا من المهم الاشارة الى الانتاجات الكبيرة والمتميزة لهيئات عربية اشتغلت في مجال الترجمة وأبدعت منها المجلس الأعلى للثقافة والفنون في القاهرة، والمجلس الأعلى للثقافة في الكويت، ونظيره حديثاً في قطر، وكذلك المنظمة العربية للترجمة في بيروت التي ترجمت في السنوات القليلة الأخيرة مجموعة بالغة الأهمية من المراجع في أكثر من حقل.