بقلم : سهيل كيوان ... 25.07.2012
لن تنجز الثورة العربية المعاصرة مهمتها التاريخية إلا بعد الإطاحة بجميع الأنظمة التي سبقت لهيب البوعزيزي، بغض النظر عن التفاوت في مواقف هذا النظام البائد وذاك الذي سيبيد، النظام العربي القديم كله استنفد نفسه منذ عقود، وبات هدمه عن بكرة أبيه ضرورياً وحتمياً، وأي نتيجة ستتمخض عنها الثورة وإن حملت بعض المآسي في بدايتها ستكون في المحصّلة أفضل بكثير من المستنقع الذي قادت هذه الأنظمة الأمة إلى أوحاله.
قد يكون الخروج من المستنقع النتن إلى الهواء الطلق مؤلمًا، وقد يجبي ضحايا كثيرة، ولكن مهما بلغت التضحيات فهي أفضل من البقاء في عفن المستنقع، لأن البقاء هناك يعني نهاية الأمة، وهذه الأمة قررت أن لا تموت.
كي تنجح الثورة كما نحلم وكما حلم مَن قبلنا، لا بد من مذابح فكرية، يجب أن تسفك دماء الفكر القديم، أن نرى أشلاءه متناثرة محطمة مهزومة يسخر الناس منها ومن أنفسهم..كيف كنا بلهاء..كيف تداولناها بغباء لعقود وقرون طويلة!
هناك نهج تفكير وتلقين يجب أن يُجتث من جذوره، أن يُنظر إليه كرافد من روافد الفساد والتخلف، وكجزء من منظومة الأسلحة الفتاكة التي استخدمتها الأنظمة في تخدير الشعوب والركوب عليها طيلة هذه العقود، أفكار هي حليفة للأنظمة البائدة، تماهت معها وكمّلتها، بقناع الوطنية تارة وقناع الدين والمذهبية تارة أخرى وتارة أخرى بقناع القومية، نحن بحاجة إلى نقد شامل وعميق لكل شيء دون تردد، لا يوجد مسلمّات، كل شيء قابل للنقاش والنقد والتمحيص بحرّية مطلقة.
إحدى الدعائم المعنوية للأنظمة هي مديح الحاكم من خلال الشعر والمقالة والفن، ولهذا من شروط نجاح الثورة العربية أن تحمل في جعبتها بين ما ستحمل تحريم مدح الحاكم أو المسؤول مهما بدا نظيفًا أو ثوريا في بداية طريقه، واعتبار الفن الذي يمدح الحاكم بمثابة رشوة لا تقل خطورة بل تزيد عن الرشوة العينية من مال وغيره، واعتبارها محاولة للعودة بالتاريخ إلى أيام الأنظمة السوداء.
المديح له دور كبير في إفساد الحكام وحتى في تضليلهم وتطويل قرونهم وآذانهم، في مثلنا الشعبي البسيط قالوا 'مدحنا القط عملها في الطحينات'، المديح وصل في أحيان كثيرة إلى درجة التواطؤ وحتى المشاركة مع الحاكم في جرائمه كلما كان هذا الحاكم ونظامه أكثر قمعًا وفسادًا.قد يسأل الممدوح نفسه في بداية الأمر...هل أستحق هذا المديح! وهل هذا المادح صادق أم منافق يريد التكسب!وهل أنا الذي أحمل كل هذه المزايا الجميلة التي يتشدق بها الشاعر أو الكاتب أو الفنان!قد يقول لنفسه..ليتني أكون عند حسن ظن الناس بي، ولكن عندما يتكرر المديح ومن أكثر من مصدر وعلى أكثر من مستوى وقامة ومشرب فني لا يلبث أن يقنع نفسه بأنه يستحق هذا الكلام خصوصًا إذا جاء من من شعراء وكتاب وفنانين كبار، سوف يصدق أن الفقراء في بلاده يدعون له في صلواتهم، وأنه عطاء رباني لهذا الشعب المسكين عندما يهتف مئات الألوف في مظاهراتهم المنظمة باسمه، سوف يؤمن أنه لا بديل له، وأنه إذا مرض أو مات فإن البلاد سوف تتيتم من بعده وأنه لا يوجد من يدبّر أمرها مثله لا من قبله ولا من بعده، وهكذا يركز الحاكم الصلاحيات كلها بيده فلا يتحرك شيء إلا بإذنه حتى يصبح كل مواطن بحاجة شخصية لكرمه وأريحيته.
يدمن الحاكم على المديح، لأن المديح يطمئنه، فهو بمثابة بديل عن عطائه الحقيقي للشعب، المديح يملأ فراغ التقصير ويحجب الحقيقة، ويطمئن الحاكم الذي يشكك في نفسه ونظامه بأن الأمور ماضية على ما يرام والشعب راض حتى لو تراكمت فوقه المزابل وقذارات النظام وأذرعه القذرة. سوف يتناسى الحاكم حساباته وأمواله السرية المنهوبة من عرق الشعب وجوعه وحتى إهانته، سوف يعتبر أمواله السريّة نشاطا مشروعًا وجزءًا من استراتيجية الأمن القومي، دون أن يشك للحظة بأنه يشبه العمرين في عدلهما وتواضعهما، وطبعا سوف يصل إلى قناعة بأن هذا الشعب خلق لأجله، كي يحكمه هو ولا أحد سواه.
المديح يعمل على شكل هرم مقلوب، يبدأ بمديح الحاكم ثم ينزل إلى كل مسؤول في مكانه حتى يصل أصغر موظف، وهذا الجهاز الهرمي له آلية تكافئ المادحين وتحرم الصامتين بسبب صمتهم، ولن نتطرق هنا إلى المصائر المتعثرة لمن يجرؤون على هجاء الحاكم أو المسؤول وحتى الموظف الصغير، إلا إذا كان هذا الهجاء يعمل عكسيا أي أنه يهدف لتحميل صغار الموظفين وزر فساد نظام بأكلمه كما أظهرت الدراما السورية لسنين طويلة وتشاطرت على الضعفاء، وكأن المشكلة هي مشكلة هذا الموظف أو ذاك وليست مشكلة النظام بأسره، رأيت مقابلة مع الفنان السوري (جمال سليمان) قبل أيام على فضائية أوريانت، وقد أعجبني جدًا في تحليله للوضع الراهن في سورية وإدانته بلا تأتأة للنظام الذي رفض التعامل مع المنتفضين منذ البداية إلا بمنطق القوة ولم يعد أمامه الآن سوى السقوط.
قانون الثورة الجديد يجب أن يعاقب ليس فقط كاتب المديح، بل من ينقله وينشره ومتلقيه، فهذا لا يدخل في باب حرية الرأي، لأن تقديم رشوة لموظف أو لمسؤول ليس حرية رأي، ومديح من ينظف الشارع ويخلّص الناس من القاذورات أولى من مديح الحاكم الذي يجب أن يخدم العباد والبلاد ويطوّرها ويعمل على سعادة الناس، أول كلام يجب أن يقال لشاعر أو كاتب أو فنان يمدح حاكمًا..هو 'أعوذ بالله منك ومن نفاقك'، بالمقابل يجب منع الهجاء أيضا، والمقصود منع الهجاء لمعارضي النظام، وعدم السماح بتشويه صورهم، كما حدث للأسف في الثورة السورية عندما خوّن بعض الفنانين السوريين زملاءهم بل والآلاف المؤلفة من الجماهير المنتفضة ضد النظام، واعتبار هجاء المعارضة والتعامل معها بلغة غير سياسية نوعًا من الرشوة غير المباشرة للحاكم والنفاق له.
الأنظمة التي كال لها شعراء وكتاب مدائح كثيرة مستعدة لتدمير البلاد وحرقها على أن تتنازل عن السلطة، هاهو نظام الأسد مستعد أن يجعل البلاد قاعًا صفصفاً على أن يتنازل عن السلطة، فهو بات على قناعة راكمتها أعوام الكذب والنفاق بأنه هو البلاد والبلاد هو، حُجب على بصيرته ولم يعد قادرًا على تصوّر نفسه خارج سدة الحكم، فهو الحاكم الأبدي، ألم تكن هناك شعارات ومظاهرات منظمة على مدى عقود تهتف..'إلى الأبد إلى الأبد' فكيف يصير الأبد بضع سنين أو بضعة أشهر! ها هو مستعد للتلاعب بمصائر الملايين من خلال الأسلحة الكيماوية التي بحوزته، إنه يحولها إلى واحدة من أوراقه الأخيرة للمساومة على بقائه، واستخدامها كورقة ضغط على الخارج وعلى الداخل بهدف إضعاف حجة المعارضين ومعنوياتهم، والتشكيك بوطنيتهم وانتمائهم ومحاولة دمغهم وتشويههم دون وازع من ضمير وطني أو قومي أو أخلاقي وكأنهم يقفون في خندق واحد مع العدو، هذا العدو الذي بات مرتبكا بالفعل ومتأكدًا بأن الأمور لا تمضي في صالحه وخصوصًا في الثورة السورية التي ستخّلص دولة إقليمية مهمة بحجم سورية من مستنقع الفساد والضعف والتردد والنهوض بها من جديد لتعود قلب العروبة النابض وليس قلبها الفاسد....