أحدث الأخبار
السبت 23 تشرين ثاني/نوفمبر 2024
"حزب الله" وإضاعة الفرصة!!

بقلم : د.خالد الحروب ... 01.08.2012

في واحد من إعلاناتها العديدة تقول "الوثيقة السياسية لحزب الله" وهي التي أقرها المؤتمر العام للحزب سنة 2009 واعتبرت حلقة مهمة من حلقات تطوره الفكري والسياسي: "إن معايير الاختلاف والنزاع والصراع في رؤية حزب الله ومنهجه إنما تقوم على أساس سياسي- أخلاقي بالدرجة الأولى، بين مستكبر ومستضعف، وبين متسلط ومقهور، وبين متجبر ومحتل وطالب حرية واستقلال". واليوم من حق الرأي العام، وبعضه أيد "حزب الله" في السنوات الماضية، استدعاء هذا الأساس وأسس أخرى عديدة ناضل من أجلها الحزب. ومن حق الرأي العام، في ضوء موقف الحزب وأمينه العام من ثورة الشعب السوري ووقوفه ضدها وانحيازه إلى جانب المتجبر والظالم، محاكمة "حزب الله" بناء على الأسس والمعايير التي حددها لنفسه إزاء فهم ورؤية أي صراع. موقف "حزب الله" وتأييده لنظام الأسد ووصف حسن نصرالله لبعض أركان بطش النظام، وخاصة آصف شوكت، بـ"الشهيد" شكل صدمة كبيرة لوجدان ملايين الناس الذين أيدوا الحزب، والآن يرونه يتخلى عن كل ذلك ليرتد إلى سراديب الطائفية وضيقها. أين هو الأساس السياسي والأخلاقي الذي ينبني عليه موقف الحزب من ثورة سوريا؟ وأين هو الأساس الطائفي والمذهبي في ذلك الموقف؟
منذ تحرير الجنوب اللبناني سنة 2000 وانكفاء إسرائيل تزايدت نجاحات "حزب الله" وحضوره السياسي في العالم العربي. التوق إلى نصر ضد إسرائيل، أي نصر، على خلفية تاريخ الهزائم الطويلة معها، نقل الحزب إلى خارج حدوده الطائفية الضيقة. ترك الحزب وراءه سنوات نهاية الثمانينيات وأوائل التسعينيات عندما انخرط في صراعات دموية مع الشيوعيين والقوميين السوريين وغيرهم وتوتر داخل متاريس الطائفة الشيعية وحسب. مع نهاية التسعينيات صار حزباً مختلفاً.
لم تكن الصورة كاملة الوردية. فكما هو حال كل إيديولوجيا كامنة وموجهة، خاصة إن كانت دينية، تظل تشتغل آليات داخلية تعمل على تآكل ما قد يتم إنجازه خارجياً. وهكذا ظلت هناك آليتان تشدان الحزب إلى إحداثياته الكتلوية المتقلصة: البرنامج الاجتماعي التديني وهويته الطائفية التي قيدت انطلاق الحزب محلياً وحالت دون وصوله شرائح أوسع، والولاء السياسي لإيران الذي قيد انطلاق الحزب عربياً.
عملياً، كانت ثمة مقايضة كبرى عند مؤيديه من خارج أطره الحزبية تم غض النظر بموجبها عن كتلوية الحزب وانحيازاته الطائفية تقديراً لدوره المقاومي. أحد الجوانب المهمة، بل ربما الأهم، في كل ذلك أن التأييد للحزب والجماهيرية التي حظي بها، وعلى رغم الشكوك والانفلاتات التي كانت تحدث هنا وهناك، تخطت الهوية الطائفية للحزب. مرة أخرى، كان هذا التجاوز للحدود الطائفية يتم في حقبة زمنية تمتاز بحدة تخندقها المذهبي والطائفي وسيراً عكس التيار وإنجازاً تاريخياً بحق.
كل ذلك الإنجاز والرأسمال الذي راكمه "حزب الله" على مدار عقود ووصل به وبقائده إلى مراتب من التأييد والشعبية تمت التضحية به بكل بساطة على مذبح الثورة السورية وتأييد النظام الأسدي. انكفأ الحزب دفعة واحدة إلى مربعه الطائفي وتخلى عن الشعارات والسياسات التي جذبت حوله دوائر المؤيدين الذين رأوا فيه نموذجاً للحزب الإسلامي التقدمي وغير الطائفي والمتجاوز للتقليدية الدينية والمذهبية. كل الجسور التي شُيدت وبشكل غير مباشر بين الشيعة والسنة والمسيحيين في المنطقة عن طريق النموذج الذي قدمه "حزب الله" تم نسفها بسرعة قياسية. لو وقف "حزب الله" مع الشعب السوري وقفة عقلانية ومنسجمة مع شعاراته في إسناد المستضعفين والمظلومين والمقهورين لكان حقق قفزة إلى الأمام ليس على صعيد شعبية الحزب وحسب، بل على صعيد ترسيخ العلاقة الصحية بين الشيعة والسنة في المنطقة العربية. لكان أثبت فعلًا أنه حزب خارج إطار التصنيفات الطائفية، لا يتحرك فقط لتأييد الاحتجاجات حينما تكون شيعية بينما يبتلع لسانه وينكشف بطريقة مخجلة عندما تكون الاحتجاجات غيرها. لو حدث ذلك لكان قدم خدمة جليلة وتاريخية للشيعة العرب على وجه التحديد وقطع الطريق على كل الادعاءات والاتهامات التي تشكك في ولائهم وتشير إلى أن إيران هي من يحدد لهم الأجندة السياسية. موقف "حزب الله" من الثورة السورية شكل مفصلًا تاريخياً وفرصة لا تعوض لتأسيس علاقة مختلفة في المنطقة العربية تضعف الانقسام المذهبي في الكثير من البلدان العربية وتبطل مفعول الولاء للخارج. عندما وقف "حزب الله" مع النظام الأسدي والإيراني ضد الشعب السوري سدد ضربة قاصمة لكل مطالبات الشيعة العرب التي هي في أغلبها مطالبات عادلة بالمساواة في الحقوق والمواطنة. لقد كشف ظهر تلك المطالبات وربطها عنوة بالخارج.
ولكن من ناحية عملية وفعلية، هل كان بإمكان "حزب الله" أن يتخلى عن ظهره الاستراتيجي: سوريا وإيران ويقامر على المجهول؟ الجواب نعم كان بإمكانه القيام بذلك لو التزم بالمعايير الأخلاقية والسياسية التي أقرها الحزب لنفسه، ولو التزم بالحد الأدنى من المسؤولية التاريخية التي تتجاوز اللحظة الراهنة وتنظر إلى المستقبل بعيداً عن المحاور السياسية الراهنة التي خلقتها أنظمة زائلة على حساب شعوب باقية في المنطقة إلى الأبد. لم يكن من المطلوب أن يقف "حزب الله" إلى جانب الثورة السورية بالتمام والكمال، ولكن كان بإمكانه أن يأخذ مسافة آمنة من النظام الدموي، وأن يبتعد تدريجياً عنه، كما فعلت حركة "حماس". كل مسافة يأخذها الحزب من النظام الأسدي (التابع لإيران عملياً الآن) كانت تدخله أكثر وأكثر في النسيج اللبناني وعمق النسيج العربي وتؤكد عروبته وانتماءه المحلي، وتنفي تبعيته الخارجية. سيقول كثيرون من أنصار الحزب إن أطرافاً أخرى كثيرة سواء في سوريا أو لبنان أو العالم العربي تابعة للخارج بصورة أو بأخرى. وهذا صحيح بالطبع لكنه مناكفة في غير مكانها لأن تبعية "حزب الله" للخارج، لإيران، لها أكلاف وتبعات مدمرة على الشيعة العرب عموماً بما يستلزم طريقة أخرى للتحليل بعيداً عن المحاججة عبر توجيه نفس الاتهام للآخرين. "حزب الله" وبسبب صورته وإعلامه وحضوره، أصبح وكأنه الممثل الرسمي للشيعة العرب: يتبنى قضاياهم في إعلامه وتلفزيوناته وخطابه. وتنعكس مواقفه من الأحداث عليهم بشكل شبه تلقائي. ودليل ذلك أن كل تأييد من قبل "حزب الله" في الوقت الحاضر لأية مطالب للشيعة في أي بلد عربي يؤدي إلى إضعاف تلك المطالب واتهامها بأنها ناتجة عن تدخل خارجي ومؤامرة إيرانية. لم يفقد "حزب الله" صورته ورأسماله المقاومي وحسب، ولا دوره في تجسير الهوة الطائفية والمذهبية في المنطقة، بل تحول الآن إلى عبء على الشيعة العرب، يؤذيهم حينما يؤيدهم، وعوض أن يساهم في تعزيز مواطنتهم صار أداة تستخدمها إيران في التقسيم والتجزئة والتدخلات. إنها نهاية تراجيدية لحزب!!