بقلم : د.خالد الحروب ... 13.08.2012
ما يقوم به الجيش المصري في سيناء من فرض لسيطرته في شبه الجزيرة وعلى الحدود مع قطاع غزة بعد العملية الإرهابية الوحشية التي استشهد فيها 16 جندياً يجب ألا يكون ردة فعل ظرفية بل "انتفاضة سيادية" تؤسس لنظام أمني جديد في سيناء وما حولها. نظام يقوم على مرتكزات تخدم أمن مصر أولًا وقبل كل شيء، وفي الوقت نفسه تتفادى التورط في فرض عقاب جماعي على الفلسطينيين من قصد أو غير قصد. والجريمة التي حدثت، على بدائيتها وغباء منفذيها المدهش، ليست خارج ما هو متوقع. فالبيئة الأمنية الهشة في سيناء مولدة لعملية كهذه ولو لم تحدث اليوم لحدثت مثيلاتها غداً أو بعد غد. والحل طويل الأمد لا يكمن في إلقاء القبض على مقترفيها، على رغم أهمية ذلك بطبيعة الحال، بل في معالجة الجذر المؤسس للاختلال الأمني الكبير في سيناء وتعديله بشكل كلي وجوهري.
المشكلة الأساسية في أمن سيناء تعود إلى بنية التوافقات الأمنية التي أقرتها اتفاقية كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل، وهي البنية التي تكبل يد مصر ولا تتيح لها بسط سيطرتها وسيادتها على سيناء بالكامل. ولكي تغير مصر من هذه البنية الأمنية التي تنتهك السيادة المصرية وتحقق تبعاً لذلك أحكاماً للسيطرة على ما يحدث في سيناء فإن ذلك يتطلب تغييراً جذرياً في شكل النظام الأمني والسيادي الذي كان سائداً فيها خلال العقود الثلاثة الماضية، وبحيث يعتمد على أسس جديدة. الأساس الأول هو قلب المنظور الأمني الذي قامت عليه اتفاقية كامب ديفيد في سيناء وهو أمن إسرائيل أولًا وتحويله إلى أمن مصر أولاً. فبناء على ذلك المنظور، أي أمن إسرائيل أولاً، قيدت الاتفاقية حركة الجيش المصري في سيناء، وقلصت السيطرة الأمنية فيها إلى حد فاضح لا يتجاوز عدة مئات من الجنود وبتجهيزات وأسلحة فردية. وبناء على ذلك المنظور أيضاً حولت سيناء إلى محض منطقة عازلة buffer zone وهُمشت وكأنها ليست منطقة تابعة فعلياً وسيادياً لمصر. ودرجة تبعيتها لمصر صارت تحت التبعية الحقيقية بكثير وفوق التبعية الاسمية بقليل. ومع مرور العقود كان من الطبيعي أن تتشكل ديموغرافيا بشرية في سيناء قوامها تكتلات قبلية ولاؤها لمصر المركزية يزداد ضعفاً ومتوازياً مع هشاشة السيادة المصرية على سيناء نفسها، وتمردها على السلطة المركزية يغريه ضعف هذه السلطة في سيناء وتواريها. وبسبب خفوت هذه السلطة ومعه أي حضور عسكري قوي يفرض السيادة السياسية والأمنية، مضافاً إليه فشل إداري وتنموي وسياسي للحقبة المباركية، لم تنشأ تنمية اقتصادية حقيقية في سيناء تستجيب للزيادة السكانية وتعكس وجوداً قوياً للدولة المصرية. وهكذا وفي ظل غياب الدولة وغياب تنميتها وجيشها لم يكن من الغريب أو غير المتوقع أن تتطور علاقة متمردة عند قبائل سيناء أساسها النقمة على القاهرة وسياستها وسياسييها وإهمالهم لجزء من الوطن، وعلى هامش ذلك ترعرعت جيوب التطرف الذي استفادت منه حركات إرهابية تداخل وافدها مع مقيمها. وجذر ذلك كله، مرة أخرى، هو المنظور الأمني الكلي الذي حرص على إبعاد الجيش المصري والسيادة التامة للدولة عن المنطقة.
والأساس الثاني للمنظور الأمني البديل والمطلوب هو إعادة تعريف سيناء على أنها جزء عضوي من الأرض المصرية وليست "منطقة عازلة" تفصل مصر عن إسرائيل، قليلة السكان ومحض صحراء قاحلة لا تستحق العناية والتنمية. ففي سيناء اليوم ما يقارب نصف مليون مصري ومساحتها تقريباً ثلاثة أضعاف مساحة إسرائيل المدججة بترسانة أمنية وعسكرية ربما تكون الأولى في العالم نسبة إلى المساحة الجغرافية. كيف أمكن القبول أساساً بمعادلة أمنية في سيناء على رغم مساحتها الهائلة تلك وبحيث لا يتواجد فيها سوى بضع مئات من الجنود؟ لكن في كل الأحوال، وحتى لو فرضنا أن سيناء كانت مجرد صحراء عند توقيع اتفاقية كامب ديفيد فإن الواقع الحالي وبعد مرور أكثر من ثلاثة عقود على تلك الاتفاقية يقول إنها لم تعد كذلك، وإن صلتها ببقية أجزاء القطر المصري يجب أن تتغير جذرياً، استراتيجياً، وسكانياً، وتنموياً، وأمنياً.
والأساس الأمني الثالث للمنظور الجديد هو أن التهديد الاستراتيجي لمصر مصدره دائماً وأبداً إسرائيل، وأن أي انجرار لموضعة قطاع غزة أو الفلسطينيين كمصدر تهديد للأمن القومي المصري هو هروب من مواجهة الجذر الحقيقي للهشاشة الأمنية للإطار السيادي العام في سيناء. والدليل المهم في هذا السياق تدركه القيادات المصرية الميدانية التي لاحظت كيف أن حدود سيناء مع قطاع غزة تم الحفاظ عليها من قبل الفلسطينيين ومن قبل حركة "حماس" خلال شهور الفوضى الأمنية التي أعقبت الثورة المصرية. كان الأمن الفلسطيني في قطاع غزة يزود الجنود المصريين في سيناء وعلى مدار أسابيع طويلة بالاحتياجات اليومية من الطعام واحتياجات النوم وسواها انطلاقاً من إحساس عميق بالمسؤولية، ولم تسجل خروقات كبيرة على الحدود على رغم الارتباك الكبير الذي حصل على امتداد المنطقة الحدودية. والحقيقة أن سلوك "حماس" الأمني وحرصها الاستراتيجي على أمن مصر هو امتداد لوعي فلسطيني عميق وعام تتشارك فيه مع "فتح" ومع كل الأطراف الفلسطينية بلا استثناء، يؤمن بأن مصر وأمنها القومي وقوتها ومصلحتها هي أمور لا مساومة فيها وتقع في صلب المصلحة الفلسطينية ومكملة لها.
ولذلك واستطراداً على ما سبق يجب القول إنه حتى لو جاء المجرمون الذين اقترفوا تلك الجريمة الوحشية ضد الجنود المصريين من قطاع غزة فإن هذا لا يعني الانجرار إلى رد فعل غريزي يدفع ثمنه سكان القطاع الذين يعيشون حصاراً منذ أزيد من خمس سنوات. وسياسة العقاب الجماعي سياسة مرفوضة جملة وتفصيلًا وهي سياسة تكاد تكون حصراً على إسرائيل التي دأبت على معاقبة الشعب الفلسطيني كله بدعوى مكافحة الإرهاب. في الجريمة التي سقط ضحيتها أفراد أبرياء من الجيش المصري يجب ملاحقة المذنبين فقط، ومن المفهوم أيضاً بل ومن المفروض سد كل الثغرات التي أمكن للمجرمين استغلالها لكن بحيث لا يزيد ذلك من معاناة ما يقرب من مليونين من الفلسطينيين في قطاع غزة الذين أدانوا الجريمة برمتهم، بل وتبرع واحد منهم بعشرة آلاف دولار لعائلة كل واحد من الضحايا تعبيراً عن عمق الشعور الفلسطيني بالتضامن والإدانة للفعل الجبان.
وهذا يقود إلى النقطة التالية وهي أن الأساس الأمني الرابع يتمثل في فتح معبر رفح بشكل نهائي وسيادي ومسؤول في ذات الوقت الذي يتم فيه هدم وإغلاق الأنفاق. إن مئات الأنفاق التي حفرها الفلسطينيون بسبب الحصار تحت ضغط الحاجة وبغية الحفاظ على حياتهم ومعاشهم وتواصلهم مع العالم هي حالة شاذة وغير طبيعية، وناتجة عن العجز الدولي والإقليمي وخاصة عجز نظام مبارك عن إسناد الفلسطينيين بشكل إنساني وفعال. ولأن تلك الأنفاق هي الشريان الحياتي الوحيد لسكان القطاع فقد كانت السر المكشوف الذي يعرفه ويقبل به كل العالم بما في ذلك إسرائيل والولايات المتحدة وبطبيعة الحال مصر. الكل كان يعرف ويقبل أن ينقل الفلسطينيون حليب أطفالهم عبر الأنفاق وتحت الأرض وليس فوقها. واستخدمت تلك الأنفاق وبشكل شبه مؤكد من قبل جماعات لها أهداف تدميرية لأمن مصر وأمن الفلسطينيين، وما كانت الفرصة أن تتاح لها لو كانت حركة الفلسطينيين طبيعية فوق الأرض وكباقي البشر. ولكل ذلك وبالتوازي مع هدم الأنفاق وإغلاقها يجب على مصر أن تفتح معبر رفح أمام حركة الفلسطينيين وتنهي هذه المهزلة التي يرعاها الجبن العالمي والغطرسة الإسرائيلية. وفتح المعبر يجب أن يتم بمسؤولية عالية أيضاً لا تقود إلى فصم قطاع غزة عن بقية الجسد الفلسطيني بما يعزز أوهام البعض بأن القطاع تحرر من الاحتلال الإسرائيلي وبما يعفي إسرائيل من مسؤولياتها أمام القانون الدولي ويحررها من السمة الاحتلالية، ولأن ذلك مرتبط عضوياً بالضفة الغربية واحتلالها وسيطرتها عليها.