أحدث الأخبار
السبت 23 تشرين ثاني/نوفمبر 2024
أزمة ثقافة لا أزمة طوائف!!

بقلم : د.عبد الستار قاسم ... 27.08.2012

تثور مسألة التعدد المذهبي والطائفي والقومي في الوطن العربي كسبب قوي جدا في نشوب النزاعات الداخلية في عدد من الأمصار العربية، وكذلك في تأجيج صراعات داخلية دموية تهدد مستقبل الدولة وتُؤذن بحدوث انشقاقات وتفتت سياسي. وهذا ليس وهما وإنما حقيقة نراها تتبلور في عدد متزايد من البلدان العربية إذ تشتد النعرات الطائفية في أكثر من بلد عربي، وتتأزم العلاقات بين الفئات المختلفة من الناس، ويتصاعد الخوف من تمزق أوصال الدولة وانهيار المجتمع الأوسع.
يبدو أن المسألة تجاوزت مجرد وجود طوائف ومذاهب وقوميات لتصبح مسألة ارتفاع درجة الوعي بها وعكس هذا الوعي على الواقع العملي من حيث السلوك الفردي وتحديد العلاقات العامة على اتساع المجتمع على مختلف المستويات السياسية والاقتصاادية والثقافية، الخ. هناك ضخ إعلامي مستمر وفياض لبث الوعي القومي والمذهبي والطائفي الهادف إلى زرع بذور الشقاق والتميز والانفصال وليس بهدف توسيع الحدود المعرفية وتعزيز الروابط والتعاون المتبادل، وأعداد الفضائيات ووسائل الإعلام المهتمة بتأجيج الصراع أو زرع بذور الفتن يتزايد باستمرار.
التعدد أممي وليس عربيا
يبرر بعضهم أن البلدان العربية تعاني من التنوع والتعدد الواسعين على المستويين الديني والقومي، وفي هذا ما يؤدي إلى الشقاق والصراع الداخلي، ويهدد بقاء الدولة القطرية القائمة حاليا. لكن الواقع العالمي يشير إلى أن التعدد منتشر في كل بقاع الأرض، ولا نستطيع حصره في بقعة واحدة، على الرغم من أن حدته ونطاقه قد تختلفان من مكان إلى آخر. فمثلا هناك تنوع واسع جدا من نواحي متعددة في الهند، لكنه ليس بذات الحدة والنطاق في بريطانيا.
إذا نظرنا إلى الولايات المتحدة، نجد أن الأصول القومية والدينية للناس شتى وكثيرة جدا، ونكاد لا نستطيع حصرها. تتواجد في أمريكا أصول قومية عديدة، وأديان متعددة مثل المسيحية والإسلام والسيخية والهندوسية والوثنية، ومذاهب دينية كثيرة مثل البروتستانت على اختلاف أطيافهم والكاثولوكية والسنة والشيعة. ولا يختلف الأمر بالنسبة لأوروبا أو دول آسيا وأمريكا اللاتينية. في العديد من دول العالم، يعيش الناس على مختلف أطيافهم معا، ولا يتعايشون فقط، ولا يبدو أن اختلاف المشارب الدينية والقومية تؤثر في النسيج العام للدولة.
تثور في بعض دول العالم صراعات قبلية ودينية ومذهبية، وتذهب ضحيتها أعداد غفيرة من الناس مثلما يجري في نيجيريا وبورما، وما جرى في إيرلندا وإسبانيا. لكن دراسة هذه الصراعات تشير إلى أن كثافتها واستمرارها مرتبط إلى حد كبير بالمستوى الحضاري للناس نسبة إلى ما وصلت إليه الدول المتطورة اقتصاديا وعلميا وتقنيا من تنظيم قانوني وأخلاقي للعلاقات. المعنى أن المسألة ليست مرتبطة بالتعدد بقدر ما هي مرتبطة بعوامل حضارية تؤثر مباشرة في صياغة الأبعاد الثقافية التي تحكم سلوك الناس وبناء العلاقات العامة بينهم على المستويين الرسمي والشعبي. وهكذا هو الأمر في البلدان العربية من حيث أن المستوى الثقافي ما زال متخلفا جدا عن مستوى متطلبات وحدة الدولة القطرية، أو وحدة الأمة قوميا، أو وحدتها دينيا.
رجل دين ورجل دولة
زرت يوما كبير رجال دين مذهب إسلامي ضمن زيارات بحثية فسألته بداية عما إذا كان مسلما، فقال: "أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله. قال عليه الصلاة والسلام: تفترق أمتي إلى ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، ونحن الواحدة." ببساطة، أرسل هذا الشيخ مئات الملايين من الناس إلى جهنم وحجز مقاعد الجنة لجماعته واضعا بذلك نفسه مكان رب العالمين.
سألت رجال دين من مذاهب أخرى عما أفاده، فأرسلوه هو وجماعته إلى جهنم، واحتكر كل رجل دين الجنة لجماعته هو. لم يتلكأ أي رجل دين عن الإفتاء بأن الجنة له فقط، وأن باقي الناس سيصلون سعيرا بعد الموت مباشرة قبل يوم الحساب. وهنا طغى لدي سؤال لم أجد له إجابة: كيف يمكن أن تتفاهم مع شخص يرى في نفسه إلها، أو على الأقل مفوضا إلهيا يتخذ قرارت نيابة عن الذات الإلهية.
لم تختلف القصة مع رجل الدولة الذي سألته عن الحكمة في احتكار جماعته لوظائف الدولة فأجابني بأن جماعته فقط هم الذين يتميزون بالمعرفة الضرورية والغيرة على الدولة. وعندما سألته عما إذا كان في الدولة كفاءات علمية وإدارية من غير أفراد حزبه أجاب بأن الكفاءات موجودة لكن أهدافها تخريبية وستؤدي إلى انهيار الدولة إن هي تغلغلت في أوساط الحكم والإدارة. ولم يختلف الحال عندما وجهت سؤالا لمتنفذ في الحكم حول استئثار القبيلة بالمناصب الرئيسية في الدولة إذ أجاب أن القبيلة ملتزمة بمصلحة الأمة وتخشى على الأمة ممن هم من خارج القبيلة فيطعنون الأمة بظهرها.
اختلف رجل الدولة عن رجل الدين في أن الأول نصب نفسه أمينا على الأمة، فيما نصب الثاني نفسه إلها أو ما يقارب.
التعصب الأعمى
رجل الدين متعصب، وكذلك رجل الدولة، وإذا عدنا إلى المنطق العلمي فإن هذا لا يصلح رجل دين، ولا ذاك رجل دولة لأنهما متعصبان. لا يمكن لرجل دين مؤمن أو رجل دولة أن يكون متعصبا. المؤمن لا يتعصب وإنما ينقل وجهة نظره بأمانة دون أن تغيب عنه قواعد العدالة وأسس التعامل الأخلاقي مع الناس بغض النظر عن دياناتهم ومشاربهم، ورجل الدولة لا يمكن أن يكون متعصبا مستأثرا فتغيب العدالة ويقضي تعصبه على وحدة الناس وتعاونهم وعلاقات الثقة المتبادلة التي يجب أن تسود.
في الساحة العربية، التعصب يقتلنا حاضرا وتاريخيا، وسيقتلنا استمراره. نحن العرب ننحدر من عقلية قبلية متعصبة ترى في الأنا أساسا في الحكم على الآخرين وقاعدة للتعامل معهم. وقد قال الشاعر قديما: ما أنا إلا من غزية إن غوت غويت وإن ترشد غزية أرشد. وقال آخر: إذا بلغ الفطام لنا رضيع تخر له الجبابر ساجدينا. ولم يختلف ثالث كثيرا عندما قال: فغض الطرف إنك من كليب فلا كعبا وصلت ولا إيادا.
ربما تبدلت القبيلة بعض الشيء الآن، وليس كل الشيء أو أغلبه، لكن العقلية القبلية التعصبية المتحوصلة ما زالت قائمة وبقوة وتطغى قيمها على ماعداها من قيم. دول عربية عدة تحكمها قبائل وتعود ملكيتها لهذه القبائل. القبليون البدو أمراء يرسمون ويحكمون ويسيطرون على أموال الدولة، وينفقونها كيفما يشاؤون، ودول عربية أخرى تحكمها عصابات تحولت إلى قبائل حزبية أو ثورية أو دينية، ولا تختلف في سلوكها عن الأنظمة القبلية. المال والجاه والسطوة للحاكم ومن لف لفه من أفراد قبيلته الأصليين أو المتشبهين، والذلة والفقر والهوان لعامة الناس ولمن نافسهم من الطامعين الراغبين في المشاركة.
الأحزاب في بلادنا قبائل يقودها شخص واحد أحد، وقد يرتضي لنفسه بؤرة قيادية محدودة تستشار في بعض الأمور. شيخ الحزب كما شيخ القبيلة هو الذي يعطي ويأخذ، يمنح ويمنع، يزوج ويطلق، يعز ويذل، يرفع ويخفض، يقرّب ويبعد، الخ. حتى أن جمعيات الدفاع عن الحريات والديمقراطية عبارة عن مؤسسات شخصية لمديريها الذين لا يختلفون في تصرفاتهم عن الذين يريدون منهم تغيير أنماط حكمهم. ولا يختلف في ذلك التحرريون (الليبراليون) الذين يرون كل السوء في النظامين السياسي والاجتماعي لأنهم يتحوصلون حول أنفسهم ويفصلون تجمعهم إلى حد بعيد عن جمهور الناس وعن الانسيابية في إحداث التغيير. تحول التحرريون في أغلب البلدان العربية إلى مجرد عصابة حزبية يقودها شيخ يقتدي بقيم تنفصل عن تاريخ الأمة.
التعصب والتحلل
التعصب ليس من قيم الاجتماع والتجمع السياسي وإنما من قيم التحلل والافتراق. ينبثق عن التعصب الشعور بالعلو والتفوق الأجوف والاستهتار بالآخرين وهضم حقوقهم وازدرائهم. فهو يولد العنصرية والنظرة الدونية تجاه الآخرين مما يؤدي إلى نمو مشاعر الكراهية والحقد والضغينة والتي تؤدي إلى التفتت الاجتماعي والتمزق والتنافر السياسي والصراع الداخلي. التعصب آفة خطيرة وقاتلة للمجتمعات، ويستحيل التقدم والنهوض بوجوده، ويحول العمل السياسي إلى نشاط تآمري خسيس هدفه ترسيخ فئة ضد أخرى بدل أن يكون عمل بناء وعطاء يشارك فيه الجميع.
التعصب عبارة عن استحواذ للقوة ومنابعها، ويدفع دائما باتجاه اكتساب القوة للشخص أو للقبيلة أو الحزب دون المجتمع والدولة. وهو بهذا يؤدي إلى ضعف الثقة ما بين الناس، وزرع قيم الشك والتخوين والتآمر، وتغليب الصراع الداخلي على أي صراع خارجي قد ينشب. معه تنحط أخلاق الناس ويصبح النفاق والدجل والكذب والتزلف قيم عليا يتمسك بها الناس. وقد يبدو الناس متدينين، لكنهم بدون إيمان أو بإيمان ضعيف، ويجيزون لأنفسهم تجاوز القيم الدينية لصالح قيم التخلف وتحقيق المصالح الخاصة على المصالح العامة.
بالنظر إلى البلدان العربية، حصل تغير في العديد من مناحي الحياة، لكنه في أغلبه ناجم عن ضغط تطور حياة الناس في مختلف أنحاء العالم تبعا للتطور العلمي والتقني. أي ان التغير موضوعي، ولم يتحقق تقدم بفعل واع وبناء على أسس أخلاقية كونية إلا ما ندر، وهذا ما يفسر استمرار توسع الهوة ما بين الدول المتطورة والبلدان العربية. التطور أخلاقي أولا، ومن ثم قانوني، والقيمة العليا في المجتمع هي التي تؤثر بصورة حاسمة على ما عداها من أخلاق. في بلادنا، المعايير الأخلاقية لا تستحوذ على اهتمام المسؤولين، والقوانين لا تطبق إلا على الضعفاء. ما زال التعصب هو القيمة الأخلاقية العليا التي تتصدر المشهد، وهو بالتالي الذي يحدد من الناحية العملية ما هو أخلاقي وما هو غير أخلاقي.
ارتفاع حدة الصراع الداخلي
يشهد العربي صراعا بين الأنظمة العربية منذ أن قامت الدولة العربية الحديثة بإرادة استعمارية بعد انهيار الدولة العثمانية. لم تتوقف الأنظمة العربية عن بث سمومها وشتائمها وسبابها المتبادلة، وأوقعت العربي في حالة من التيه والضياع حول مستقبل الوحدة العربية وتعريف الأصدقاء والأعداء، وتوضيح برامج التقدم للنهوض بالأمة ككل أو بالدولة القطرية. رفضت الأنظمة العربية العمل ضمن مفهوم البعد الواسع وهو البعد القومي العربي أو البعد الإسلامي، وبقيت محصورة ضمن بوتقتها القطرية وتعتاش على الفتن والنزاعات الداخلية التي تحصل ضمن مجتمعها الضيق.
لم تكتف الأنظمة العربية بأنها بقيت حارسا على التمزق القومي والديني، بل عملت على تأجيج صراعات جديدة على المستويات الشعبية من خلال بث الوعي بعوامل الافتراق والتحلل بين الناس. فمثلا، أصبح أطراف الصراع في لبنان أكثر وعيا بأسس وعوامل افتراقهم من ذي قبل، وكذلك الأمر في اليمن والسودان والمغرب العربي ومصر، الخ. لم يكن من مصلحة استمرار الأنظمة في الحكم تعزيز عوامل الاجتماع والوحدة، فعززت عوامل التناحر والتمزق والافتراق؛ ولم تكن القوى الخارجية غير سعيدة بمثل هذا المنحى فعملت على ترسيخه ودفعه إلى المزيد من التجذر.
كان من الممكن أن يقف المثقفون والمفكرون موحدين في مواجهة التحلل والاقتتال، لكن عصا الأنظمة كانت غليظة، وقوة الالتزام كانت ضعيفة. من هؤلاء من هاجر خارج الوطن العربي، ومنهم من فضل الصمت، أو اللهاث وراء نعم الأنظمة، وقلة قليلة قررت المواجهة فكان الاعتقال والتجويع بانتظارها.