بقلم : سهيل كيوان ... 26.01.2012
لماذا أكتب عن سورية وأنسى فلسطين!سؤال وجيه بالطبع لمن لا يعرف التاريخ والجغرافية، سؤال مقبول لو وجهه مواطن يعيش في كينيا في قرية معزولة عن العالم ولم تصلها ولن تصلها الكهرباء في العقدين القادمين. ولكنه سؤال وجهه قارئ عربي ردًا على مقال لي قبل أسبوعين هنا في هذا المكان!
نعم لماذا لا أكتب لفلسطين، وأنا المتهم أصلا بالكتابة المشبعة بفلسطين مكانًا وزمانًا وبشرًا منذ بداياتي وحتى نهاياتي!ببساطة لأنني عندما أكتب عن سورية فأنا أكتب لفلسطين، قضية العرب الأولى تحتاج إلى أمة حرّة قادرة على الحركة والتعبير، تحتاج إلى أمة متحررة من اللهاث الأبدي وراء رغيف الخبز، قادرة على اختيار حكامها ومناقشة مصائرها، شعوب لا يختزلها شخص ولا حزب ولا قبيلة أو عشيرة ولا طائفة ولا طبقة ولا إقليم.
هناك من حاولوا حصر قضية فلسطين بالفلسطينيين، ثم حصروها بفلسطينيي الضفة والقطاع ثم مزقوها لتصبح قضية حماس وفتح ثم عباس وهنية، هؤلاء هم أعداء فلسطين، كذلك من يريدون عزل شعب سورية عن محيطه العربي لا يحلمون له بالخير، ولنا أن نلاحظ في هذا السياق أن الأنظمة الفاسدة تعزز وتعمق المشاعر الإقليمية والطائفية والقبلية في كل مناسبة وخصوصًا عندما تتململ شعوبها.
معظم عائلات فلسطين لها أصول أو امتدادات في سورية ولبنان والأردن، وهناك عائلات بل قرى كاملة في فلسطين تعود أصول سكانها الى الشمال العربي الإفريقي ومصر والجزيرة العربية، ونادرًا ما تجد اسم عائلة في فلسطين بلا رديف له في قطر عربي خصوصًا في سورية.
سورية رغم (سايكس بيكو) كانت وستبقى قلب العروبة، ولكن قلب العروبة مريض ومتعب فهناك من احتكره ودسّه في خزائنه واعتبره من غنائمه الخاصة، هناك من غلبته أنانيته وسبى هذا القلب بقوة السلاح وراح يتاجر به ليشبع أمراضه وجنونه، نعم قلب العروبة مريض ويمر بعملية جراحية خطيرة ومعقدة ولكن لا مفر منها.
لولا قلب العروبة المريض ورأس العروبة الفاسد وأطراف العروبة المشلولة لما ضاعت فلسطين، ولما بقيت كل هذه العقود في الأسر، ولما كانت أيدينا على قلوبنا خشية أن تكون فلسطين أندلساً جديدة ونفقدها إلى الأبد، لا يمر أسبوع حتى يسن الكنيست قانونًا عنصريًا جديدًا، لا هدف له إلا ابتلاع ما تبقى من فلسطين وتشريد من لم يتشرد بعد من أبنائها أو تيئيسه حتى يرحل باختياره، وتأكيد حقيقة أنها لم تعد عربية.
لا مفر من تعافي الجسد العربي كله من الخوف والقمع والفساد والمرض والفقر والأمية، لا مفر من حرية التعبير والحركة والتنظيم وتداول السلطة وكل من يقف عائقًا أمام هذه الأهداف يجب إزاحته حتى ولو تزين بمعطف 'الممانعة'، نحن نبكي ضحايا سورية أكثر مما نبكي ضحايا فلسطين، لأنها بنادق الأخوة وسيوفهم ودماؤهم، كل قطرة دم تسيل في سورية الآن إنما سالت في غير مكانها الصحيح، وكل طاقة نزفت وهدرت هي إدانة يومية جديدة لنظام لم يعد صالحًا وجديرًا بقيادة قلب العروبة بل أصبح عبئا على هذا القلب ويجب التخلص منه حتى لو صرخ ليلا ونهارًا بأنه 'ممانع'.
لقد ملّ الكثيرون الكتابة عن سورية، وهذا ما يطمع به النظام بالضبط، أن تتحول الثورة السورية إلى شأن هامشي ليستفرد بها بأسلحته وجيوشه التي بُنيت من عرق ودماء وجوع الشعب، ولكن معضلة النظام أن الثوار لم يُستجلبوا من بلاد واق الواق، إنهم من الأزقة والحواري نفسها التي يخرج منها الجنود.
لقد ضحى الشعب السوري بالكثير لأجل فلسطين، ولا يمكن لفلسطيني أن ينسى فضل هذا الشعب الشقيق العريق في معاملته الخاصة للفلسطيني منذ النكبة الأولى، ولهذا فإن أقل ما يمكن أن نقدمه لهذا الشعب الكريم والعظيم هو هذه الكلمات، فإذا كان قد قدم من دمه وأرواح أبنائه فلماذا يستكثر البعض علينا أن نقف معه في محنته بأقلامنا وحواسيبنا وعلى شبكات التواصل الاجتماعي على الأقل!
الناس يريدون أمورًا جديدة تواكب الأحداث العظيمة الجارية، ينتظرون من الفنان أن يكون حقيقيًا، أن يكون ثائرًا في الواقع مثلما هو ثائر في المسلسل والمسرحية والفيلم والرواية واللوحة، وإلا فقد مصداقيته، انتقاد موظف هنا وآخر هناك لم يعد كافيًا، ولا انتقاد الرشوات والمحسوبيات وغيرها من موبقات، لأن ساعة تغيير هذا الواقع قد أزفت، النظام كله يحتاج إلى تغيير وليس الشعب، وحينئذ وعندما يعتاش القاضي والشرطي والموظف بكرامة فهو لن يمد يده للرشوة، وعندما يكون الضابط والطيار محترمًا فلن تغريه جهات معادية، وعندما يكون ابن الأقلية من طوائف أو قوميات أخرى حاصلا على حقوقه التامة ومتساويًا مع الأكثرية أمام القانون فهو لن يستقوي بالأجنبي على حكام بلاده، ولن يطلب الأمان في بلاد الغرباء، وعندما لا تكون فوارق اجتماعية شاسعة بين الناس تتلاشى الأحقاد، فكيف يفرز نظامٌ تحتل الاشراكية حيزًا كبيرًا في أدبياته أناسًا لا يملكون لقمة يومهم بينما يتلاعب آخرون بالمليارات!
الجامعة العربية ليست بريئة تمامًا من الدم السوري، لأن صمود النظام السوري وتطويل عمره الاصطناعي يصب في صالح الأنظمة التي لم تزرها الثورة بعد، النظام حجر عثرة الآن أمام الطوفان الذي بدأ به شعب تونس ومصر وليبيا واليمن وسورية، الأنظمة المتبقية ترى بالنظام السوري جدارًا واقيًا لها رغم محاولة بعضها الظهور بمظهر العداء للنظام، فمن خلاله يحاولون الظهور والتصديق أنهم أفضل حالا وأنهم 'ثوار ولآخر مدى'، ولكنهم في الواقع مثل غيرهم ومطالب الأمة العربية ومظالمها متشابهة جدا، وبلا شك ستكون مصائر شعوبها مشتركة، مستقبل الأمة هو أن تكون موحدة مع مراعاة الخصوصية، وقد يحدث هذا بعد عقود قليلة، وهو أمر كان يبدو على مسافة سنوات ضوئية قبل عام فقط، ولكن قطار الثورة بدأ بالتحرك بدماء البوعزيزي وما تلاه من دماء عربية طاهرة ولن يتوقف حتى يدخل كل مدينة وقرية عربية من المحيط إلى الخليج ويطهّرها تطهيرّا من رجس أنظمة الفساد والكبت والتخاذل، وحينئذ سنتأكد أن فلسطين وشعبها لن يكونوا أندلسًا جديدة في تاريخ هذه الأمة.