بقلم : د.فيصل القاسم ... 29.01.2012
صحيح أن القوة الاقتصادية ليست كافية دائماً لترجيح كفة الدول على الساحة الدولية نفوذاً وهيمنة. فمن المعلوم مثلاً أن اليابان قوة اقتصادية عملاقة تحتل المرتبة الثالثة في التصنيف الاقتصادي العالمي منذ سنوات، لكنها ما زالت قزماً سياسياً لا نفوذ له في القضايا الدولية. وهي ما زالت حتى الآن تسير في الركب السياسي الأميركي والغربي عموماً. وهذا مفهوم طبعاً بالنظر إلى أن اليابان ما زالت مكبلة بقيود وشروط معاهدات الاستسلام التي فرضت عليها بعد الحرب العالمية الثانية بعد خسارتها أمام أميركا وحلفائها. وكذلك الأمر طبعاً بالنسبة لألمانيا التي تتربع على المركز الرابع منذ زمن من خلال إجمالي إنتاجها القومي الذي يُقدر بالترليونات. لكن رغم أن ألمانيا أقوى من فرنسا وبريطانيا وإيطاليا اقتصادياً، إلا أنها لا تتمتع بنفس النفوذ السياسي الذي تتمتع بها البلدان الثلاثة آنفة الذكر، أولاً لأنها أيضاً ما زالت تعاني تبعات هزيمتها في الحرب العالمية الثانية، وثانياً لأن فرنسا وبريطانيا دولتان نوويتان، وثالثاً لأنهما عضوان دائمان في مجلس الأمن الدولي الذي يعتبره السياسي والمفكر البريطاني الشهير طوني بن أبشع ديكتاتورية على وجه المعمورة لأنه مفروض على العالم بقوة الحديد والنار، لا بالديمقراطية، لمجرد أن أعضاءه فازوا في الحرب العالمية الثانية، ومن ثم تقاسموا غنائم الحرب بطريقة استبدادية لا تخطئها عين.
لكن إذا تمكنت أمريكا وبقية أعضاء مجلس الأمن من إقصاء اليابان وألمانيا سياسياً وعسكرياً رغم قوتيهما الاقتصادية الهائلة، فإنها بالتأكيد لن تستطيع أن تكبح جماح القوى الاقتصادية الأخرى غير المحكومة بمخلفات الحرب العالمية الثانية. صحيح أن أميركا والاتحاد الأوروبي ما زالا يتحكمان بمفاصل السياسة الدولية، بما فيها مجلس الأمن الدولي، لا بل إنهما يمثلان ما يسمى بـ"الأسرة الدولية" رغم أنهما لا يشكلان سوى نزر يسير جداً من تلك الأسرة بشرياً، إلا أنهما بدأا يواجهان قوى صاعدة على الساحة الاقتصادية بسرعة رهيبة. فالصين التي ظلت على مدى العقود الماضية تتصرف سياسياً بتواضع شديد نظراً لعدم امتلاكها الذراع الاقتصادي الذي يؤهلها جيداً لمكاسرة الغرب، بدأت الآن تبدي عضلاتها شيئاً فشيئاً من الناحية السياسية. كيف لا وهي صاحبة أعلى معدل نمو اقتصادي في العالم، حيث وصل معدل النمو فيها قبل سنوات إلى أكثر من ثلاثة عشر بالمائة ليعود إلى حوالي عشر بالمائة العام الماضي، بينما لا يتجاوز معدل النمو في الغرب أكثر من اثنين بالمائة وربما أقل. فالصين الآن ثالثة القوى الاقتصادية عالمياً بعد أميركا والاتحاد الأوروبي. زد على ذلك أن التوقعات الاقتصادية ترشح الصين لأن تكون سيدة العالم اقتصادياً في نهاية العقد الحالي. والأكثر من ذلك أن اللغة الصينية ستكون اللغة العالمية الأولى بعد حوالي عشر سنوات فقط مزيحة بذلك اللغة الانجليزية عن العرش العالمي. ومن الجدير بالذكر أيضاً أن الصين أصبحت قادرة أيضاً على ابتزاز الأميركيين اقتصادياً ومالياً.
وحدث ولا حرج عن روسيا التي أظهرت من خلال موقفها الأخير من الأزمة السورية أنها بدأت تعود إلى الساحة الدولية كلاعب أساسي معتمدة في ذلك، ليس فقط على كونها عضواً دائماً في مجلس الأمن الدولي ومالكة لترسانة نووية رهيبة، بل أيضاً على ذراعها الاقتصادي الذي ينمو بسرعة ملحوظة. وتشير المعطيات الاقتصادية إلى أن روسيا ستحتل المركز الرابع اقتصادياً في العالم بحلول نهاية العقد الحالي، أي بعد ثمانية أعوام فقط. بعبارة أخرى، فإنها ستزيح القوى الاقتصادية التقليدية مثل اليابان وألمانيا وفرنسا وإيطاليا من مكانها لتصبح من أقوى الأقوياء اقتصادياً.
والأخطر من روسيا والصين بالنسبة للقوى الغربية اقتصادياً هي الدول التي كانت حتى وقت قريب محسوبة على العالم الثالث. هل تعلمون مثلاً أن البرازيل التي لم يكن العالم يسمع في الماضي إلا عن بؤسها وفقرها وتدهورها الاقتصادي والاجتماعي حلت قبل أيام محل بريطانيا كسادس أقوى قوة اقتصادية في العالم؟ من كان يتصور أن البرازيل ستطيح بصاحبة الإمبراطورية التي لم تكن تغيب عنها الشمس؟ ومما يزيد في خطورة البرازيل أنها أصبحت أيضاً من الدول المصدرة للسلاح المتطور.
وإذا كانت البرازيل قد احتلت المركز السادس، فإن دولة أخرى كانت اشد بؤساً وتخلفاً من الناحية الاقتصادية، وهي الهند جوهرة التاج البريطاني، تقطع أشواطاً هائلة على طريق التنافس الاقتصادي، فهي مرشحة أيضاً في نهاية هذا العقد أن تزيح قوى أوروبية كفرنسا وألمانيا من المركز الخامس لتحل محلهما بحسب صندوق النقد الدولي والمعهد البريطاني للأبحاث الاقتصادية "سي اي بي آر". ومما يزيد في نفوذها المتصاعد امتلاكها للسلاح النووي.
باختصار، فإن عام 2011 أظهر ترجيحاً لكفة التوازنات الاقتصادية العالمية لصالح بلدان الاقتصادات الناشئة، البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا التي باتت تعرف بمجموعة "بريكس". وتمثل دول بريكس الخمس حالياً أربعين بالمائة من التعداد السكاني وأربعين بالمائة من الاحتياطات النقدية للكوكب. وهذه الاقتصاديات التي يبلغ إجمالي ناتجها المشترك حوالي 14 ألف مليار دولار، تمثل بالمائة ثلاثين بالمائة من النمو العالمي منذ أن ابتكر غولدمان ساكس تسمية بريكس في 2001.
ومما يزيد في خطورة هذا التجمع على القوى التقليدية متانته ونموه بفضل تكامل أعضائه. فالصين والهند تحظيان بالوصول إلى الموارد الهائلة من المواد الأولية والطاقة والزراعة في روسيا والبرازيل وجنوب أفريقيا، فيما يقدم الصينيون السلع الاستهلاكية بأسعار منخفضة للطبقات الوسطى لدى شركائهم. أضف إلى ذلك أن الدول الخمس موحدة في بحثها عن نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب، بما في ذلك عبر ثقل متزايد في المؤسسات المالية الدولية مثل صندوق النقد الدولي. لكن يبقى عليها أن تتوصل إلى التحدث بصوت واحد، وذلك يمثل 'عملية تدريجية' بحسب السفير البرازيلي السابق لدى الولايات المتحدة روبنز بربوزا. ورويداً رويداً "ستتمكن بريكس من التحدث بصوت واحد بشأن مواضيع محددة عندما تتلاقى مصالحها" كما قال.
وعلى الجبهة الدبلوماسية، تسعى البرازيل والهند وجنوب أفريقيا جاهدة للحصول على مقعد دائم في مجلس الأمن الدولي. وبما أن العصا الاقتصادية لدول "بريكس" تزداد نمواً وتصلباً، فإن الوقت ربما لن يطول قبل أن تبدأ بفرض أجندتها السياسية على الساحة الدولية.
لا أحد يستطيع أن ينكر أن عدم حسم الأزمة السورية حتى الآن يعود إلى دخول مجموعة "بريكس" على الخط، فالصين وروسيا استخدمتا الفيتو المزدوج في وجه القرارات الغربية. والهند والبرازيل وجنوب أفريقيا تحاولان معهما موازنة الضغط الغربي المتزايد. وإذا لم تستطع مجموعة "بريكس" الآن إحباط المخططات الغربية في العالم، فإنها من خلال نفوذها الاقتصادي والسياسي المتصاعد قادرة على الأقل على فرملتها، وربما استبدالها لاحقاً. لكن هذا لا يعني أن بإمكان ما يسمى بمحور الممانعة العربي أن يسترخي لمجرد أن بعض حلفائه بدؤوا يصعدون دولياً، فالمتخلفون أمثالنا سيظلون مجرد ذيول في عرف القوى الناشئة، حتى لو تحالفوا معها. فنحن، للأسف، ما زلنا كالأصلع الذي يتباهى بشعر صديقه.