أحدث الأخبار
السبت 23 تشرين ثاني/نوفمبر 2024
الثورات العربية: رهان على المستقبل!!

بقلم : د.خالد الحروب ... 30.01.2012

درس التاريخ يكرر لنا أن الواقع المُباشر لما بعد الثورة هو الارتباك والفوضى المؤقتة. الإقرار بهذا يخفض من سقف التوقعات ويعقلن فهم التغيرات السياسية والاجتماعية الحادة ويضعها في إطار التحول التاريخي طويل الأمد. ولهذا فالأمر المهم في فهم واستيعاب حاضر الثورات العربية، هو موضعتها في سياق التحولات التاريخية العريضة والمؤسسة لمرحلة جديدة تقتضي بدايات طويلة وصعبة وربما دموية. وهذا يعني أيضاً الانفكاك من اللحظة الراهنة وأسر التعثرات والتخوفات العديدة.
لهذا فالانحياز للثورات العربية رغم كل ما فيها من اختلالات، هو انحياز لأفق المستقبل، للحرية والكرامة. وهو أيضاً، وبوعي كامل، انحياز مقامر في ذات الوقت. فإسقاط أنظمة الاستبداد هو الشوط الأسهل، رغم صعوبته وأحياناً دمويته وأكلافه الهائلة، خلال مسيرة بناء مجتمعات ديمقراطية فاعلة.الشوط الأكثر صعوبة هو عملية التأسيس والبناء بعد عقود الخراب الطويل. الانحياز هنا يعني الاصطفاف مع التغيير ضد رتابة التكلس والجمود. الثورة هي النهر الذي يجرف البرك الراكدة والمستنقعات، رغم أن ركوب النهر نفسه والتسليم بقياده مخاطرة ومقامرة أيضاً.
انجراف المستنقعات لا يعني ظهور واحات خضراء مكانها على الفور. لهذا فإن الذين توقعوا أو يتوقعون أن تتحول بلدان الثورات إلى جنان عدن بين عشية وضحاها كانوا ولا يزالون غارقين في الوهم. فالفساد والاستبداد اللذان دمرا تلك البلدان على مدار عقود طويلة لا يمكن إصلاح آثارهما في لحظة. والشعوب نفسها التي حُرمت من الحرية والتعايش المشترك فيما بينها، هي شعوب تحتاج بدورها زمناً لا غنى عنه كي تتقن ممارسة الحرية من دون اعتداء على الآخرين ومن دون الانزلاق في مهاوي استبداد جديد. صحيح أن لحظة "ميدان التحرير" وميادين التغيير الأخرى مثلت التتويج المثالي لالتفاف الشعوب حول بعضها وتضامنها وإسقاط دكتاتورها الخاص. لكن تلك اللحظة وطوباويتها لا تستديم. روعتها تكمن في قدرتها على توحيد الشعب على هدف مرحلي واحد هو إسقاط النظام الفاسد. وبعد سقوطه يتلاشى ذلك التلاحم وتعود التنافسات الطبيعية بين المجموعات المختلفة للظهور وتطبع المشهد بصراعاتها. بل تأخذ هذه التنافسات بين المجموعات والأحزاب المختلفة أشكالاً أكثر حدة لأنها تتم الآن في مناخ الحرية وليس القمع، وهذا كله شيء طبيعي، لكنه بالنسبة للغالبية الكاسحة من الرأي العام تحول مُحبط، مُربك، ومثير للخوف على الحاضر والمستقبل، ويدفع جزءاً من ذلك الرأي العام إلى الترحم على أيام الُمستبد حيث كانت الحياة "مستقرة"! نعم، لكنه كان استقرار الاستبداد وليس استقرار الحرية.
المواجهة المباشرة مع المشكلات المركبة في بنية المجتمعات وحلها أولاً بأول ليس من سمة الدكتاتوريات المنشغلة بالمهمة الأولى والأخيرة، وهي الدفاع عن بقائها في الحكم. لهذا فما يتم على مدار حكم الاستبداد هو تراكم المشكلات ودخولها حقباً طويلة من التعفن الطويل الذي يأتي على البنية التحتية للشعوب والمجتمعات، ويعمل على مفاقمة المعضلات وتسعيرها. لذلك فما يحدث فور سقوط النظام المُستبد، وهو ما نراه الآن في عدة حالات، هو انفجار تلك المعضلات دفعة واحدة بما فيها القبلية والطائفية والجهوية والتعصب الديني. تثير هذه الانفجارات إحباطاً وخوفاً عميقاً ومبرراً، لكنها انفجارات لابد منها. إنها القيح الذي لا مناص من إسالته من الجرح حتى يتطهر ويتعافى. وفي النظرة إلى هذه الانفجارات وتقيحاتها يميل المزاج الشعبي إلى النفور والرهبة والهروب إلى الأمام وعدم الاعتراف بواقع الاختلاف... وهي سمات جماعية من مواريث الحقب الاستبدادية الطويلة. وهذه كلها تعبيرات عن الغرق المباشر في أسر اللحظة الراهنة والحاضر المرير على حساب الانحياز للتاريخ والمستقبل الذي تفتحه هذه الثورات.
كل ما نراه الآن من فوضى وعدم استقرار هو نتاج طبيعي ومرحلة لابد منها إذا أردنا الوصول إلى بلدان ومجتمعات قائمة على استقرار الحرية وتوافقات متكافئة بين الشرائح والمجموعات المختلفة داخل كل مجتمع. وليس هناك آلية سحرية يمكننا استخدامها لحرق المراحل في هذه الحقبة. كان بالإمكان عبر عقود الاستقلال الطويلة أن تعمل الأنظمة التي ورثت الاستعمار على نقل المجتمعات والبلدان تدريجياً إلى مرحلة المواطنة والقانون والدستور، وبذلك توفر على نفسها ومجتمعاتها مقامرة الانخراط في ثورات شعبية عارمة كالتي رأيناها. الشعوب والمجتمعات تميل بالطبيعة والتعريف والتجربة التاريخية إلى آليات التغيير التدريجي والنمو والتطور الطبيعي إن كان ملموساً وحقيقياً ومقنعاً للغالبية. لكن في غياب ذلك كله، ومع سقوط الاستبداد في اختبارات بناء البلدان، تضيق خيارات الشعوب وتدفع دفعاً نحو الخيارات والآليات القصوى، وتصبح الثورة مسألة حتمية، ومسألة حياة بالنسبة لهذه المجتمعات. حياة كريمة لكنها تأتي بعد مراحل صعبة ومريرة، أو البقاء في موت سريري مستديم تحت لافتة الاستقرار الموهوم.
رهان الثورات العربية على المستقبل لا يعني الهروب من الواقع، بل هو رهان يدرك أن جذر الوصول إلى مستقبل صحي هو مواجهة مشكلات الواقع بشجاعة وعقلانية. من دون المقامرة مع النهر يبقى المستنقع مستعمراً لحاضر العرب ومستقبلهم.
من مقدمة كتاب "في مديح الثورة: النهر ضد الُمستنقع" للكاتب، الصادر عن دار الساقي، بيروت، فبراير 2012.