أحدث الأخبار
السبت 23 تشرين ثاني/نوفمبر 2024
إصلاح الأنظمة الديكتاتورية نكتة سمجة!!

بقلم : د.فيصل القاسم ... 05.02.2012

كل من يعد بإصلاح نظامه الديكتاتوري الشمولي وتحويله إلى نظام ديمقراطي لا شك أنه يستغفل شعبه والعالم من حوله. إن الحديث عن إصلاح الديكتاتوريات العربية وغير العربية في واقع الأمر أشبه بنكتة سمجة، إن لم يكن استخفافاً صارخاً بعقول الناس، وكأن الشعوب لا تعيش في زمن السموات المفتوحة، ولا تعرف طبيعة الديكتاتوريات التي تحكمها منذ عشرات السنين. ولمن ما زال يعتقد أن الإصلاح ممكن في الأنظمة الديكتاتورية المتساقطة، وبالتالي يحاول ابتلاع هذه الكذبة الكبيرة وتسويقها إعلامياً للأقربين والأبعدين نقول الآتي:
غالباً ما يتم الإصلاح والتغيير والتعديل والترميم على أشياء موجودة، وبمجرد إصلاحها تعود إلى طبيعتها ووظيفتها المعهودة. فلو أخذنا السلطات الثلاث في النظام الديكتاتوري، وهي السلطة التنفيذية والتشريعية والقضائية، لوجدنا أن هذه السلطات غير موجودة بالأصل كي يتم إصلاحها أو استبدالها، فهي مجرد ديكورات "لا تهش ولا تنش" كما يقول المثل الدارج. فالحكومة يختارها عادة الديكتاتور بمساعدة أجهزة أمنه ومساعديه المقربين من جنرالات وفاسدين وأقرباء. وفي بعض البلدان كان أحد ضباط الأمن الموثوقين لدى الطاغية مكلفاً على مدى سنين لاختيار رؤساء الحكومات والوزراء كما يختار مدير الشركة موظفيه وخدمه. بعبارة أخرى فإن أعضاء الحكومة في النظام الديكتاتوري مجرد "رجل كرسي" كما درج الكثيرون على تسميتهم في الديكتاتوريات العربية. فكيف تتوقع من حكومات مرهونة ومختارة من قبل الديكتاتور أو جنرالاته المقربين أن تكون صاحبة سلطة أو نفوذ أو مبادرة؟ مستحيل طبعاً. لهذا لا تنجح الحكومات في الأنظمة الديكتاتورية في إنجاز أي مشاريع حقيقية أو خدمة الشعوب لأنه لا حول لها ولا قوة بالأصل، فهي لا تستطيع البت بشيء دون العودة إلى الموّجه الأكبر ألا وهو الديكتاتور أو أحد أزلامه الأقوياء. وقد اشتكى أحد الوزراء العرب ذات يوم من أنه غير مخوّل بتعيين الفرّاش الذي يقدم له الشاي والقهوة في المكتب، فما بالك أن يعين مديري الدوائر والمديرين العامين. وقد تبجح أحد مديري دور السينما في إحدى الدول العربية ذات مرة بأنه تم تعيينه في وظيفته ليس من قبل الوزير المسؤول بل من قبل ضابط أمن كبير. تصوروا أن الديكتاتور يشرف حتى على تعيين رؤساء الاتحادات الرياضية والفنية ومديري الفرق المسرحية ودور الأيتام. وقد شاهدنا على شاشات التليفزيون أكثر من مرة بعض الطواغيت العرب وهم يخاطبون أعضاء الحكومة بمن فيهم رئيس الوزراء كما لو كانوا مجرد ثلة من تلاميذ المدارس، مع العلم أن أقلهم تعليماً يفوق الديكتاتور مرات ومرات في الفهم والخبرة والمعرفة. والأسخف من ذلك أن الديكتاتور يقول لأعضاء الحكومة حرفياً: أنا عينتكم وأنا سأراقبكم وأنا سأحاسبكم دون أن يعلم ذلك الجاهل وأمثاله أن مراقبة الحكومة ليست من مهمة رئيس الدولة بل من مهمة السلطة التشريعية المتمثلة بالبرلمان ومهمة السلطة الرابعة المتمثلة بالصحافة والإعلام عموماً.
وحدث ولا حرج عن السلطة التشريعية في الأنظمة الديكتاتورية، فمجالس الشعب أو الجمعيات الوطنية هي كذبة كبيرة، إن لم تكن مجرد "زوائد دودية" أو "دورات مياه" يقضي فيها الديكتاتور حاجاته كما وصفها بعض السياسيين. فمن المعلوم أن المرسوم في الديكتاتوريات أهم من القانون الذي يسنه البرلمان بكثير لأنه صادر عن الديكتاتور نفسه. ولعل أكثر النشاطات التي يمارسها البرلمان في الديكتاتوريات التصفيق للديكتاتور عندما يخطب فيهم في الجمعيات الوطنية كما يصفق الأطفال في الصفوف الدراسية، وفي أحسن الأحوال المصادقة على المراسيم والقوانين التي يتم سنها بناء على إيماءة من الديكتاتور وأجهزة أمنه. هل شاهدتم أعضاء البرلمان يوماً في الديكتاتوريات العربية وهم يستجوبون الوزراء مثلاً؟ بالمشمش طبعاً. لأن هذا من صلاحيات الديكتاتور وأجهزة الأمن وليس البرلمان.
أما السلطة القضائية فهي للزينة فقط في النظام الشمولي، خاصة أن الديكتاتور يكون عادة رئيس مجلس القضاء الأعلى. فكيف يحكم القضاء بالعدل إذا كان لا حول له ولا قوة، وإذا كانت كلمة من الطاغية تنزل مجرماً من حبل المشنقة وكلمة تشنقه،
وبدورها فإن السلطة الرابعة، أي الإعلام، فهي عملياً لا تخضع لسلطة الوزير ولا لمجلس الإعلام، بل للأقوياء من رجال الأمن الذين عينهم الديكتاتور شخصياً لكي يراقبوا وسائل الإعلام والإعلاميين. وقد شاهدنا كيف تم طرد بعض رؤساء التحرير العرب من وظائفهم ليس من قبل الوزير بل من قبل ضابط أمني مكلف بالمهمة من قبل الديكتاتور.
وحتى الأحزاب في الأنظمة الديكتاتورية فهي مخصية تماماً مهما حاول الإعلام المحلي إبرازها وتضخيمها. فالحزب الذي يسمونه "الحزب الحاكم" هو، في واقع الأمر، ليس حاكماً أبداً، بل محكوم، فأمينه العام هو الديكتاتور نفسه، وحتى نائبه ليس منتخباً حزبياً بل معيّن من قبل الطاغية. وكل أعضاء المكتب السياسي الكبار بدورهم ليسوا منتخبين بالمعنى الديمقراطي للكلمة بل مختارون من قبل الطاغية وأجهزته الأمنية. لا عجب أن وصف البعض الأحزاب الحاكمة في الديكتاتوريات العربية بالأحذية التي يلبسها الديكتاتور ليعبر بعض المستنقعات القذرة، ثم يرميها جانباً كي يلبسها ثانية عندما يحتاجها لتأدية مهمة وسخة قادمة. بعبارة أخرى، الأحزاب في الأنظمة الشمولية مجرد ثلة من الموظفين المنتدبين للقيام بوظائف معينة خدمة للديكتاتور. ولا تغرنك العنتريات التي يبديها بعض الحزبيين في الديكتاتوريات العربية، فهم يعرفون أنهم في نهاية النهار مجرد خدم حتى لو ركبوا أفخم السيارات وسكنوا أجمل الفيلات.
وبناء على تركيبة الأنظمة الديكتاتورية أعلاه، هل يمكن فعلاً إصلاحها؟ بالطبع لا. لهذا فإن كل الكلام عن الإصلاح في الديكتاتوريات المحاصرة بالثورات مجرد ثرثرة ومضيعة للوقت لعل المستبدين في هذه الأثناء يستطيعون الخروج من ورطتهم والقضاء على الثورات والعودة إلى سابق عهدهم. وهو طبعاً كحلم إبليس بالجنة. الحل الأمثل للديكتاتوريات التي ثارت عليها الشعوب يتمثل في استئصال النظام الديكتاتوري عن بكرة أبيه، وبناء نظام جديد تماماً من رأسه حتى أخمص قدميه بأشخاص جدد وعقليات جديدة لم تتلوث عقولها بالسرطان الديكتاتوري. فالديكتاتور الذي تعود على البت في كل القضايا بما فيها مصلحة الصرف الصحي و"المزابل القومية" دون أي تدخل أو حتى مشورة من أحد لا يمكن أن يقبل بسلطة محدود تحدد صلاحياته وتقلم أظافره، فهو لا يقبل إلا بالاستيلاء على السلطات الثلاث كاملة. فلا طعم للحلوى في فم تعود على مذاق العسل. وقد قال بعض الفلاسفة إن أسوأ لحظات الطغاة هي تلك التي يجدون فيها أنفسهم مضطرين للإصلاح. وبعضهم يفضل الموت على التغيير. وبما أن الأمر كذلك، فلابد للشعوب أن تفرض على الديكتاتور الخيار الثاني ألا وهو الموت بأي طريقة كانت، وأن تضرب بإصلاحات الطواغيت الموعودة عرض الحائط. فالديكتاتورية كالورم السرطاني لا يمكن مداواته بالمرهم (الإصلاح) بل بالاستئصال. وسلامتكم!