أحدث الأخبار
الاثنين 25 تشرين ثاني/نوفمبر 2024
بوش المنهار في صحراء الأنبار وسرب القطا المفزوع!

بقلم : د.فهمي الفهداوي ... 5.11.07

حين ولدّتُ فيها أي الأنبار، كانت أمي التي رحلت مقهورة بما جرى للعراق قبل عامين ، تُبكي مليكا مقتولا في بغداد ، وحين ترعرعتُ بين رمالها أي الأنبار ، وعقب سنوات خمس انتحبت أمي مرة أخرى وهي تُبكي زعيما مقتولا في بغداد ، وبعد مضي سنوات معدودات ، ولمرة ثالثة ، انخرطت أمي تُبكي رئيسا غاب في طائرة محروقة عن الأنظار .
وآنذاك انبثقت عوالم الدنيا في عيني ، وتسامقت من بين الرمال شواهد بريئة عن مدينة أكبر ما فيها جامعها الكبير وصوت الحاج المؤذن للصلاة سلمان والمُلاّ داود ، وأصغر ما فيها أنَّ الجميع يهرع إلى نجدة الوحيد والمعوز والمجروح والغريب ، دون تخويف سرب القطا .
وفي ظل هذا المخيال الصافي من فحص الطوابع والبصمات ، كانت حبات الرمال غير مستكينة ، وغالبا ما تتحول إلى وشوشات ونداءات وعطايا وتسابيح ومكامن لمخلوقات الطيور الوديعة .
وهذا النعيم الفطري كان ملاكا يسري ، ويختزل المسافات والمعابر وكل شعور بعدم المبالاة ، ابتداء من خان ضاري العريق وجسر الفلوجة الخالد ، مرورا بسنّ الذبّان المعروف بحرابه البارقة وهضبة حصيبة الشرقية التي ترتع فيها الأسود ، فالرمادي العظيمة التي تعفّر وجهها ببياض التاريخ وكلمات سوق السياب القديم ، ثم جسر الورار وحافة الصحراء التي تجترحها مسارب الفرات في قلعة هيت وواحات السموات الخضر، وانتهاء بمكر الذيب وحافات النسائم الشامية ، وترى سراب القطا مثل الأماني حائمة في الملاذات والتعب الجميل دون خوف .
أبدا .. لا أريد البكاء على الدنيا والغباوات ، بقدر ما هي الدموع على الطوامير التي توثّقت بالتواريخ والدماء والذكريات المُبجلة ، ثم جرى تمزيقها بطريقة بوهيمية ونوايا قذرة ، عرابوها من الفالتين والأقزام والطحلبيين ، أبدا لا أريد أنبارا بلا عراق ، كما لا أريد عراقا بلا أنبار ، ولا أريد وطنا بغير عراق ، ولا عراقا بغير وطن ، وينبغي أن يسمعها الحجاج وابن العلقمي وهولاكو وبوش .
فلقد تعلمّت من بكائيات أمي وحزنها الطويل على موت أبي ، بأن الفواجع مدافع ، والويلات أمانات ، والمحن محكّات ، كما تعلمّت من تجارب المُعتبِرين بأنَّ الشبعان الذي يسرق جوع الفقراء سيغصُّ في إحدى لقمات طعامه دون أن يتدارك موته مسعف ، وأنَّ سارق مصوغات الوطن سيحظى بالصدأ الذي ينخر قلبه بغتة ، إذا لم تنسل نحوه أقعى مخفية لها شكل المصوغات كي تلدغ روحه العرجاء .
لقد رحلت أمي عن الدنيا وهي تلعن بوش وجنوده الغزاة ، رحلت ولم تشهد إعدام الرئيس صدام حسين ولا رحيل الرئيس عبد الرحمن عارف ، وأنا على تمام اليقين بأنَّها لو كانت على قيد الحياة لراحت تبكيهما بنفس الحرارة القديمة والوجع القديم ، الذي اعتادت عليه في رثاء قادة البلاد والوطن ، ولراحت تضاعف اللعنات على هامان وجنوده ، ذلك أنَّ الإحساس باليتم الوطني ، هو إحساس مضاعف مرات ومرات ، ويتعدى إحساس اليتم الأبوي ويتفوق عليه في القيمة والاعتبار .
فماذا يريد الرئيس بوش من الأنبار ، وماذا أراد .؟ والأنبار صحراء مهلكة ، لا تمنح نصرا حتى ولو كان مزيفا للغزاة ، والأنبار غبار الشرفاء ، الذي يخنق الملوك المُضحكين بلكنتهم الأعجمية ، والذين لا يجدون من يُبكيهم من الأمهات العزيزات ، والأنبار مهبط المدائن التي شيدتها سيوف الفاتحين ورجالات اليرموك ، فلا تصلح مهبطا للطائرة الرئاسية الأمريكية التي أفزعت سرب القطا ، ولا تصلح إلا لكي تدلل على عقم السياسة الأمريكية للاحتلال والفشل ، فثمة عواصف وتحولات جويّة لا تسمح دائما بالطيران والتحليق ورسم الأكاذيب ، والأنبار صحراء تعرفها النوق ، والنوق العصافير ، ودروبها متآخية دما وقلبا مع كوفة الأهل وكوفيات العرب ومع البيت العتيق في الجزيرة العربية والشام المُعطَّر.
وهذه الصحراء هي التي علّمت الشيوخ آنفة عدم تدجين الضمائر واحتكارها في مزرعة تكساسية أو حديقة اصطناعية هوليودية ، فهي ليست وقفا للطوائف والميليشيات والأنانيين ، وليست حكرا بجغرافية القواعد الأمريكية للاحتلال ، التي دأبت على استفزاز أسراب القطا ، ولا بإرتعاشات بوش وتقافزه بين الكثبان ووجوه جنوده المحزونين ، وهو يلتقط صورا غائمة مضافة للمأساة والانهيار والخبل .
فهذه الصحراء هي الأنبار والوطن والعراق والبلاد ، التي شربت زلال الماء ونامت في خضرة العمل الصالح ، وهيهات أن يمسك بوش وجنوده بما أحسّ به الآن إزاء الأنبار والعراق – إزاء هذه الصحراء التي هي أوسع من أمريكا وبوش وكلّ أحلام الغزاة :
هذه الصحراء
الممتدة إلى دمي
فيها طرق
لا يعرفها غيري
ذئابها أصدقائي
وعواؤها عمري

* مدير مركز الحكم الصالح للدراسات الإستراتيجية