بقلم : ميساء ابو غنام ... 24.09.2011
لم تكن لحظة عابرة او عادية حينما انشطر قلبي الى قسمين ووقع اسفل قدماي،لمست المكان مرات عديدة وبدأت يداي يلوحان في افق اللامجهول،انقباض القلب لساعات النهار الطويلة أنبأني بالحقيقة،كان حدسا به اصرار على مصيبة قادمة،حينها اصغيت لجسدي لاشهر فائتة حينما كنت اوصي مربية ابنتي بالحضانة عليها واتذكر الجمل التي اكررها لها ولزوجها "اعتبروها بنتكم وازا بصيرلي شي ديرو بالكم عليها بنتي ما في الها حدا كونوا عيلتها"،حينها كانت اجابات ابو شادي"الله يخليك الها ليش هيك بتحكي".
نعم كانت اللحظة التي اكدت حدس المصيبة،حين توضع الحياة في كفة واللاحياة في الكفة الاخرى،فراغ تعيشه بين لحظات الظلم والقهر والاضطهاد والامل،حين تستجيب خلاياك لالمك وتبدأ بالتمزق في احشائها لتنبئك بثقل المك في اللحظة التي تهمش فيها حقك في الحياة وفي السعادة وفي الامان وفي الاستقرار،يجول في خاطرك ان تمسح ماضيك وحاضرك وتنظر الى مستقبلك المجهول،هي لحظة الحياة والموت ام لحظة الميلاد من جديد.
كان يوم التاسع من كانون الثاني للعام 2011 وفي الساعة الثامنة والنصف صباحا،حين اخذت حمامي لاتوجه الى مسرح القصبة حيث كنت طالبة في اكاديمية المسرح،اذكر حينها ولمدة اربعة اشهر حين كنت وبالحاح اريد مرهم زين الاتات اللبناني لشد الصدر،واصبح هذا المرهم يسيطر على تفكيري كلما وقفت امام المراة انظر الى ثديي الايسر وقد بدأت الحلمة ضامرة قليلا عن الجانب الايمن وشكل الثدي اصغر من الذي بجانبه،طلبت وفي وقت من الاوقات من اختي الصغرى ان تجلب لي هذا المرهم من الاردن واصريت عليها قائلة انه لاحدى صديقاتي وعلى الرغم من ذلك لم تحضره لي لعلمها انه لي قائلة"انا ما فضيت اروح اجيبلك اياه وانا بعرف انو الك شو بدك فيه انت مش بحاجة".
مرت الاشهر وتوجه زوجي السابق الى الاردن وكان محور حديثي الم كرر معه على الهاتف"ما تنسى تجيبلي الكريم الخاص بشد الصدر"وكأنني كنت ابحث عنه لاؤكد حدسي الذي ابلغني وبقصد عن مصيبتي القادمة لاشهر ما قبل الفضيحة،جاء المرهم وكأنه عسل سيجعل من هذا الثدي قنبلتي الموقوته،اخذت حمامي وبدأت بتدليك الثدي وبحرارة كبيرة ضغطت على كل مكان فيه وكأنني اردت ان يصل العضلة ليشد الثدي وتعود الحلمة الى مكانها،مع تدليكي المحكم بدأ شيئ ما يتسرب الى يداي،كتلة صغيرة مثل حبة حمص تستوطن الجزء الاعلى من صدري والجزء الاسفل من الابط،ضغطت عليها اكثر من مرة وقارنتها مع الجانب الاخر ولكن لا شبيه،بدأت مشاعري تنقبض وتتقلص وتضمر،فقدت صلتي بمحيطي،خرجت الى الشارع لم تعد اشراقة الشمس ذات معنى،حينها فقدت الانسجام مع ذاتي وبدأت اجزائي تتفتت امام عيناي المثقلتان بعبء الحياة،سيطرت يداي على ذاك المكان وكأنني لا اريد تصديق ما يحدث كنت متأكدة من حدوثه والاستثتاء لن يكون،بدوت عصبية،طلبت من احدى زميلاتي استكشاف المكان على امل ان تنكر وجوده،اكدته لي.... مع رذاذ امل بأن يزال القناع لاكتشف انه ليس بهو،كأن يكون الضيف غدد دهنية او غدة لمفاوية ولكن ان لا يكون سرطانا.
انتظرت لساعات طويلة حتى استطعت التوجه لطبيب العائلة ونبضات قلبي تغيرت ملامحها،تحدثت اليه عن وجود شيء ما في ثدي فطلب مني الجلوس للفحص السريري " اليدوي " وبعد ان أنهى الفحص قال لي : هنالك شيء ولكن ربما دهون او غدد لمفاوية فلنأخذ موعدا مع مختص.
خرجت وانقباضات القلق تتجول في ثنايا تفكيري وقلبي،لم استطع اخفاء الفاجعة على والدتي وزوجي حينها عندما قلت لهم انني في طريقي لمكان اخر من الحياة،ايام معدودات ليرن هاتفي الجوال"ميساء كيفك انا شيرين من مركز الراجحي الطبي موعدك مع الدكتور الجراح في مركز الشيخ جراح يوم الخميس اه حبيتي".
حالة استنفار مكبوتة اصابت جسدي،لم ادرك تحولات المصير الذي سيقودني للنهاية ام البداية،انتظرت اللقاء مع الطبيب وقبلها حسمت بقائي في الاكاديمية المسرحية وغادرتها،كأنني انتظرت هذا الحدث لابدأ بتقطيع اوراقي والقاء قصاصاتها بين سلات المهملات،لم يكن هذا الحدث المبهم غير المثبت الا لحظة ترتيب الواقع المأزوم،بدت حياتي كشريط فيلم يدمج ماضي وحاضر ومستقبل مجهول،علامات سؤال حول الانا والطموح والعمل والزواج والعائلة وطفلاي اللذان كلما نظرت اليهما تقطعت اوصال جسدي على فراقهما......
توجهت للطبيب واستقبلني بلامبالاة حين سألته عن الكتلة وهل هي مؤشر لسرطان رد بنفي قائلا"ليش رحتي لبعيد يمكن غدد او دهون"ولكن لا بد من التأكد وسنجري فحص الماموجرام ونأخذ عينة ....حينها تم تحديد الموعد واجريت الفحوصات اللازمة،لم انس اللحظة التي اكد لي البروفيسور اليهودي انه ليس بسرطانا،حينها عرض علي زوجي ان يشتري لي هدية لهذا النبا العظيم فرفضت وقلت له سأنتظر نتيجة الفحص.
وبعد اسبوع كنت في مدينة رام الله اسير بسيارتي ولا اعلم الى اين اتوجه......فقررت الذهاب الى فضائية وطن لاقابل مديرها واقترح عليه عمل برنامج خاص للعشاق والمتزوجين،رن هاتفي الجوال واذا بالممرضة تبلغني ان الطبيب يريد مقابلتي...وقفت امام الفضائية ترددت بالنزول وقررت التوجه الى البيت وعملت شطيرة زيت وزعتر واكلت قطعتين من الشيكولاتة التي أحبها ..وأخذت ابني باسل بعد عودته من المدرسة ودون ان اخبر احدا توجهت للطبيب.
عشت لحظات صراع مريرة....كنت متأكدة من اصابتي بالسرطان،ضحكت ارتبكت للحظات،كنت اتمنى ان يتداركني الوقت واعلم بقرب النهاية او بأمل البقاء،توتر مغلف بالابتسامة ،كنت حينها مزيج من القوة والضعف،كنت مزيجا من الرغبة والفناء،كنت انا وهي،كنت وكنت وكنت .......لم استطع الجلوس على مقعد وفي غرفة الانتظار وجدت عمتي ذات التجربة الصامتة مع المرض منذ ثلاث سنوات وقد استأصلت كامل ثدييها تنتظر دورها للفحص على ثديها المبتور.....قالت لي "ان شاء الله ما بكون اشي وقلتلها لا يا عمتي انا زيك وانا متأكدة سرطان".
دخلت عند الطبيب وامامه فحوصاتي وعندما نظر لي ضرب على رأسه قائلا،انت ميساء ابو غنام؟؟؟؟فأجبته نعم تأملني وعلامات الاستنكار على وجهه،واخذ يتنقل بين الاوراق وبيني قائلا"لا حول الله يا رب"فأجبته سرطان....اكيد سرطان ...."بدي اعرف دكتور اكلني والا مبكر"فأجابني مبكر 1سم،فقلت له"ليش انت زعلان كتير منيح بعدو الورم زغير"فقال نحن لا نستأصل 1سم وانما محيط 6 سم،فقلت"يعني الحلمة بتروح"اجابني لا"فقلت له كتير منيح"وضحكت فرد مستعجبا،لم ار في حياتي امرأة هكذا،عادة اخاف ان اخبرهم لانهم ينهارون امام عيناي فقلت في حينها لا يموت احد وطاقة الحياة بداخله فاجاب:امراة بهذه القوة والثقافة لا استطيع ان اناقشها ولكن حزني انك ما زلت صغيرة واصابك السرطان مبكرا والان تحتاجين للتوقف عن عملك ستة اشهر لاجراء العملية والفحوصات والعلاج الكيماوي.
خرجت من عند الطبيب وطاقة ايجابية ملأت جسدي على الرغم من حالة لا استطيع توصيفها:توتر مع خوف وللحظة شعرت بروحي انتقلت الى مكان اخر من هذه الدنيا وكأنها تودعها وتستقبلها في ان واحد........توجهت لطبيب العائلة وانا ابتسم وابلغته انه سرطان فقال لي "شو بتضحكي علي سرطان وجايه بهاي النفسية "اعطيته نتيجة الفحص فنظر لي قائلا"لانو نفسيتك هيك راح تقضي عليه".
عدت وكنت قد ابلغت امي وزوجي بالنتيجة،حينها هاتفتني اختي قائلة ما الذي حدث؟اتصلت امي وطلبت مني محادثتك فاجابتها "ما في شي طلع عندي سرطان القصة بسيطة".....وبعدها عشت اجمل لحظات حياتي فرحا،لا اعلم لماذا اصبحت ضحكاتي تقهقه في المكان،رأيت الحياة اجمل،احببت ذاتي اكثر بحثت عن ميساء في اعماقها....حينها رفضت زوجي ورفضت شفقته علي.....كنت ابحث طوال سنين عمري معه عن حبه واخلاصه....ما اسهل ان تعيش كلمة احبك تسع سنين لتكتشف انها قناعا كاذبا يخفي وراءه تملك لذاتك حينها تدرك ان حالة شفقته مفتاحا لازالة هذا القناع ولتتكشف الاشياء وتصبح المسلمات التي امنت بها محور تساؤل.
اجريت عملية استئصال الورم ودخلت غرفت العمليات وانا ابتسم وانتشي الحياة شغفا....اعتقد البعض حين سمع ضحكاتي داخل غرفة العمليات بأنني اخذت أقراص ما ...؟! غيبتني عن حقيقة ما أنا فيه .. أكدت على طبيبي ان عمليتي هي ازالة جزئية للورم وليس للثدي كاملا ...اكد لي ذلك،وحين استفقت من المخدر اول ما وضعت يدي كان على ثديي وسألت الطبيب الجراح هل ما زال مكانه فقال لي مكانه فابتسمت.
كانت لحظات الخوف حين اراد الطبيب ازالة الغلاف عن الثدي.....شعرت للحظة انني لن ارى الحلمة فأدرت بوجهي الى الجهة الاخرى ولكن تراجعت في اللحظة الاخيرة وقلت "انت قوية ولازم تتطلعي شو ما تكون النتيجة"حينها رأيت الحلمة مكانها فسررت جدا وسألني الطبيب عن مدى الرضى على العملية خصوصا ان الثدي نفسه لم يتضرر و انه حاول جاهدا ان لا تؤثر العملية على مظهر الثدي من الخارج فاجبته شكرا.
خرجت من المستشفى وانا انتظر الرد حول نوع الورم الذي احمله ومدى انتشار السرطان في الغدد اللمفاوية.....كانت النتيجة مُرضِيَة الى حد ما،وهنا الحديث عن بداية انتشار في الغدد اللمفاوية"تم ازالة خمس غدد وكانت غدة واحدة مصابة فقط"الا ان منطقة اسفل الورم ما زالت تحتوي على خلايا سرطانية وعليه ربما نحتاج الى عملية اخرى وقائية وهي ازالة الثدي كاملا بعد العلاج الكيماوي.
صدمة اصابتني في علاقتي مع ثديي....ربما احيانا تكون ردة فعل المحيطين بك ان سرطان الثدي شيئا عابرا ليس ذو قيمة،امعقول؟؟؟؟؟ان ارتباطي بثديي هو ارتباط الروح بالجسد فهو رغبتي وامومتي وانوثتي،اصبحت كل يوم افيق على نظراتي التي تتأمله،افحصه احيانا وافحص الاحساس بداخله،احيانا انام على سريري واراقب الحلمة...للحظة وفي احدى الليالي كنت مستلقية على سريري وفجأت وجدت الحلمة وقد خرجت من قوقعتها الى الخارج واصبحت تجاور صديقتها في الثدي الايمن،قفزت من مكاني وشعرت بنشوة سعادة فائقة جدا ، لربما لم اشعر بها من قبل ،لمستها ولو استطعت الوصول اليها لقبلتها،في هذه اللحظة قلت "اكلتو للسرطان".
بعد اجراء العملية باسبوع وما زال انبوب الغدة اللمفاوية معلق تحت الابط توجهت للمحكمة الشرعية في رام الله وانا مصرة على تطليق زوجي،دخلت على القاضي واكدت له انني لن اخرج من هنا الا بحريتي...حملني السرطان الى مكان اخر من الحياة،انا الان اقوى واجمل واكثر انوثة.....طلقت زوجي الذي غسل دماغي لسنين طويلة تحت بند الحب،لقد تخلصت منه وتخلصت من عبء الحياة معه،اكتشفت اصدقائي واكتشفت من يحبني وعرفت قيمتي عند اقرب الناس لي.....ما اروع تلك اللحظة حين استلمت ورقة طلاقي وبدأت اقبلها امام القاضي حين سألني"انت مبسوطة هلا"فأجبته كثيرا حينها قال طليقي الهذه الدرجة كنت انا سيئا فأجبته اكثر مما تتوقع بكثير.
كانت لحظة من العمر شكرت السرطان حينها...نعم شكرته لانه صالحني مع ذاتي... اليوم طلقت الحالة الاستسلامية التي كبلتني واعتقلتني وغيبت ميساء التي كانت معتقلة حد الصمت القاتل في مفاهيم العادات والتقاليد .. لم تعد عائقا أمامي ..اليوم ... اليوم أنا بكياني ووجودي احقق الانتصار على ذاتي.... اصبح الجسد ملهما واصبحت العيون براقة واصبحت الحياة متعة واصبحت الروح عاشقة واصبح الهواء حرية واصبحت فلسطين حضنا واصبح الاستقلال حلما واصبحت انا وطنا ....
ما اجملني حين ارى عالمي اجتاز الحدود...حين اقف صباح كل يوم انظر الى اشراقة الشمس تجعل حلمي اكبر.....حين اداعب اطفالي وكأنني اراهم للحظة الاولى....لم يعد الاحتلال عائقا لقد اجتزته واجتزت معاناته وقسوته.....نعم اصبحت اقف على الحاجز وارى جندي الاحتلال قزم امام عظمتي.....احيانا اعتقد انني في مكان اخر من الحياة،ربما جسد يسير في امكنة مختلفة ولكن روحي تتجول في مكان ما بعيدا عن صغائر الاشياء .. من قال ان الموت حقيقة،ان الموت كذبة نعيشها لندفن احلامنا بالخلود،من قال ان الحياة زائلة،الحياة شعلة تطفئها حين ترى الفناء امامك....استيقظ من نومي كل ليلة في ليل بيتي الحالك سوى شعاع القمر الذي يخترق غرفتي ودون ان اشعر امسك هاتفي المحمول وابدأ بالكتابة عليه اجمل مشاعري وأفاجأ صباحا حين ارى روحي تألقت بعشق ربما اخاف حينها على معشوقي منه ومنها.....
"احبك من قلب عذريتي التي سلبت،ومن نواة حريتي التي انتزعت....كنت انت وما زلت عنوان حياة وممات .....لا اصدق كم هي لحظات الخوف على غير عادتها تشبعني ارقا....انام واصحو على دقات قلبي تحن لهواك وللمسات يديك ولانفاسك وهي تعزف سمفونية حبك دو ري مي عشقا متأججا....تسحرني تؤججني تلهبني شوقا في لحظة اللقاء .....ما اجملك حين تلتقي الشفاة متعمقة في شهوة الحب ذائبة على صوت بحر هادئ يحمل امواجه بصمت حتى لا يزعج شفاها .. اغرورق لعابها كإعصار هائج بين عاشقين لساعات.....حينها كان الموت السريري لثقل الحياة والام الماضي....ملائكة الليل تحرسهما تخرج من قمر السماء في ليلة صيفية لتبارك عبادة ألسِنة تتلوى....آهٍ ما أجمل الحياة حين تذوب قبلاتها في تعابير مغمضة العينين والايدي تتلامس على وجنتين باحثة عن مخرج عن مساماتها ... آهٍ ما اجملك حين تتنفس اورجازما اللقاء...حين تلمع اعينك شعاعا صارخا ....حين يكون العشق حالة والحب مرضا واللهفة مطلبا."