بقلم : نقولا ناصر* ... 03.03.2012
إن الحديث الرسمي وغير الرسمي الذي تجدد مؤخرا عن "مركزية" القدس في الاهتمام السياسي وغير السياسي العربي والاسلامي يدحضه واقع التهويد المتسارع في بيت المقدس، وهو تهويد يتناقض تماما مع مركزية "الشأن الداخلي" الذي جعل كل بلد عربي يعتبر أن هذا الشأن يأتي "أولا" على كل ما عداه، بفضل "الربيع العربي" الذي تجد فيه دولة الاحتلال الاسرائيلي فرصة تاريخية سانحة قد لا تتكرر للامعان في مخططات تهويد المدينة المقدسة وتسريعها دون أي خشية من أي رادع عربي أو اسلامي أو مسيحي، في سباق محموم مع الزمن للانتهاء من تهويدها قبل أن ينتهي فصل "الربيع العربي".
ويتساءل العرب في بيت المقدس وفي أكناف بيت المقدس عما إذا كان هذا الربيع قد تحول عمليا إلى حاضنة مثلى تطلق يد الاحتلال حرة في تهويد المدينة وهويتها العربية التاريخية ومقدساتها الاسلامية والمسيحية، بينما العرب منشغلون بشأنهم الداخلي "أولا".
فلسطينيا، قال الرئيس محمود عباس في المؤتمر الدولي للدفاع عن القدس بالدوحة مؤخرا إن "القدس يجب أن تكون العنوان المركزي في علاقات الدول العربية والاسلامية مع دول العالم". وعربيا، لا يبدو أن العرب مختلفون معه على "مركزية" القدس، فعلى سبيل المثال، اعتبر عاهل البحرين الملك حمد بن عيسى آل خليفة القدس "قضية مركزية" و"خطا أحمر"لدى استقباله رئيس الوزراء الفلسطيني في غزة اسماعيل هنية أوائل الشهر الماضي.
لكن شتان بين القول وبين الفعل، فالواقع الراهن يدحض أي "مركزية" للقدس في الشأن العربي.
في مؤتمر "الدفاع" عن القدس بالدوحة، قال عباس إن دولة الاحتلال تخوض"معركة" و"حربا" في القدس وإنها اليوم تخوض "المعركة الأخيرة في حربها الهادفة لمحو وإزالة الطابع العربي الاسلامي والمسيحي للقدس الشرقية"، لكن الموقف العربي لا يزال مجمعا على "السلام" كخيار استراتيجي وحيد، باعتباره "معركة" واحدة وحيدة لا خيار له غيرها، وهو موقف لا يسمح للشعب الفلسطيني بخوض سواها، بالرغم من الهزيمة العربية الواضحة في "معركة السلام" هذه.
ولا أدل على هذه الهزيمة من التصريحات التي أدلى بها، على سبيل المثال لا الحصر، رموز ل"عملية السلام" لا يشك أبدا في إخلاصهم لها مثل قول وزير الشؤون المدنية في سلطة الحكم الذاتي الفلسطيني المتآكل برام الله، حسين الشيخ، إنه "منذ عام 2000 لم تعد هناك أي مسؤولية ولا ولاية للسلطة"، و"أصبح الحاكم الفعلي هو الاحتلال"، ودولة الاحتلال "ألغت جميع الاتفاقيات الموقعة" مع منظمة التحرير (صحيفة المصري)، أو تأكيد نمر حماد المستشار السياسي لعباس يوم الأربعاء الماضي بأن حكومة دولة الاحتلال الحالية "تعمل حاليا لالغاء ما تبقى من ولاية قانونية وسيادية للسلطة"، و"بدأت عمليا بالغاء حل الدولتين واستبدال نظرية الأرض مقابل السلام إلى الأرض مقابل الأمن" بمعنى "الأمن الاسرائيلي ... لاعادة الأمور إلى الوضع الذي كان سائدا ما قبل اتفاق أوسلو" و"إنهاء كل الاتفاقيات التي ترتبت على أوسلو" (القدس العربي).
في الثامن من الشهر الماضي كتب ليونارد فين في المجلة اليهودية بلوس أنجيليس الأميركية (ذى جويش كرونكل أوف غريتر لوس انجيليس) بأن عدد اليهود في المستعمرات الاستيطانية "وراء الخط الأخضر"، أي في الضفة الغربية الفلسطينية المحتلة لنهر الأردن، بلغ (600) ألف مستوطن، نصفهم في القدس ومحيطها المباشر، (40%) منهم يعيشون في شرقي القدس المحتلة عام 1967، ليرتفع عدد اليهود في القدس "الموحدة" من (100) الف عام 1980 إلى (489) ألفا عام 2007 (أرقام بلدية الاحتلال)، وينخفض عدد العرب الفلسطينيين في شطرها الشرقي إلى ما بين (70 – 100) الف، وليس (200) ألف، لأن (60) ألفا منهم يعيشون خارجها في الأردن والولايات المتحدة وغيرهما و(70) ألفا من حملة بطاقات هويتها الزرقاء يعيشون في الضفة الغربية، حسب تقديرات عزمي أبو السعود مدير عام دائرة الحقوق المدنية بمنظمة التحرير الفلسطينية الذي توقع نهاية الوجود العربي في المدينة بحلول عام 2020 إذا سمح للوضع الراهن بالاستمرار (اقتباس من مقال لأسامة الشريف في "أراب نيوز" السعودية باللغة الانكليزية في 1/3/2012).
فهل كان هذا الواقع سيكون هو السائد في القدس لو كانت قضيتها "مركزية" حقا لدى العرب !
فالانكفاء العربي إلى الشأن الداخلي الضيق لكل دولة على حدة من دول التجزئة العربية في موسم "الربيع العربي" قد تحول إلى عنوان ل"تهميش" القضية الفلسطينية، والقدس عنوانها، حرم الشعب الفلسطيني من "أضعف الايمان" العربي في التضامن مع عرب فلسطين تحت الاحتلال، وتحول عمليا، بغض النظر عن النوايا الحقيقية أو المعلنة، إلى ضوء عربي أخضر لتغول دولة الاحتلال على القضية وشعبها.
والانكفاء العربي إلى الشأن الداخلي يهدد اليوم بتفكيك وتفتيت دولة التجزئة العربية على أسس دينية أو طائفية او عرقية أو قبلية، وهذه نتيجة متوقعة لتراجع "مركزية" القضية الفلسطينية والقدس كعامل توحيد عربي أساسي في مواجهة دولة الاحتلال الاسرائيلي التي زرعت في قلب الوطن العربي لفصل مشرقه عن مغربه، ومنع وحدته، ونتيجة متوقعة لاخراج مصر، عماد القوة العربية، ثم الأردن، خط المواجهة الأطول، من دائرة الصراع العربي – الاسرائيلي، ليتحول هذا الصراع من صراع على الوجود إلى صراع على الحدود، ومن صراع عربي إلى صراع فلسطيني مع دولة الاحتلال، بينما تدور اليوم معركة إخراج سورية من هذا الصراع، بعد تدمير عمقها الاستراتيجي بالاحتلال الأميركي للعراق.
ويتضح تراجع المركزية العربية للقضية الفلسطينية وقلبها المقدسي في الانخفاض المتواصل في عدد الدول العربية التي في حالة حرب مع دولة الاحتلال، فقد دفعت مركزية فلسطين في الشأن العربي سبع دول عربية إلى قتال دولة الاحتلال في سنة 1948، بالرغم من وجود معظمها تحت "الانتداب" البريطاني أو الفرنسي، وفي سنة 1967 حاربتها ثلاث دول عربية، وفي سنة 1973 حاربتها دولتان فقط، واليوم لم تبق إلا سورية في حالة حرب معها، وإذا نجحت المعركة الدائرة حاليا في إخراجها من دائرة الصراع، لا يبقى لعرب فلسطين وهم يواجهون وحدهم خطرا واقعيا محدقا بهدم ثالث الحرمين الشريفين في القدس إلا أن يقولوا مع جد النبي العربي محمد عليه الصلاة والسلام، عبد المطلب، عندما جاء أبرهة الأشرم الحبشي لهدم الكعبة: "للبيت رب يحميه".
إن الضجة التي أثارها الرئيس عباس بدعوته في العاصمة القطرية العرب والمسلمين إلى زيارة القدس وهي تحت الاحتلال "نصرة للسجين الفلسطيني" فيها، وهي الدعوة التي رفضها مضيفه القطري الأمير حمد بن خليفة بإحالتها إلى رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين يوسف القرضاوي للافتاء فيها، فأفتى د. القرضاوي بتحريمها تحت الاحتلال، منضما إلى تحريم مماثل للمسيحيين من البابا شنودة الثالث بابا الاسكندرية، هي ضجة تسلط الأضواء على حقيقة أن مركزية القدس على وشك أن يسحقها التطبيع العربي الرسمي على المستوى الشعبي بعد أن أنهاها رسميا.
لقد تحول الوضع العربي الراهن إلى حاضنة مثلى لتهويد القدس يكاد يغرقها و"مركزيتها" العربية الاسلامية في خضم "ربيع" حروب داحس وغبراء عربية معاصرة في عصر جديد لملوك الطوائف يبكون فيه مثل النساء ملكا مضاعا، أو على وشك أن يضيع، لم يحافظوا عليه مثل الرجال.