بقلم : د.فيصل القاسم ... 04.03.2012
إذا أردت أن تتأكد من أن هذا البلد ديمقراطي فعلاً وذاك يتظاهر بالديمقراطية، فالأمر في غاية السهولة. ما عليك إلا أن تراقب أحد مراكز التصويت والاقتراع، فإذا وجدت الناس يمسكون ببطاقات التصويت ويدخلون إلى غرف الاقتراع السرية، فاعلم أن في البلد ديمقراطية حقيقية، وأن وزارة الداخلية فيه لا تعدو كونها مجرد منظم للعملية الانتخابية لا أكثر ولا أقل، وليست كلب حراسة جعاري يرهب الناخبين أو المستفتين للتصويت للجهة الأقوى أو الوحيدة في البلاد. وإذا وجدت الناس يتباهون بتصويتهم بـ"نعم" فاعلم أنك في بلد ديكتاتوري بائس ما زال يضحك على ذقون الشعب بخزعبلات سخيفة لها علاقة بالديمقراطية كما لي أنا علاقة بالأجرام السماوية.
لا أبالغ إذا قلت إن رمز الديمقراطية الحقيقي ليست الانتخابات بحد ذاتها، بل غرفة الاقتراع السرية، فهي تمثل روح الديمقراطية، خاصة أن الأخيرة تعني بالدرجة الأولى حرية الاختيار، ناهيك عن أنها تعني أيضاً احترام الفرد وخصوصيته. فمن أبرز سمات الأنظمة الديمقراطية الحفاظ على خصوصية الأفراد وعدم المساس بها. ولنتذكر هنا أن الشعب البريطاني يرفض منذ عشرات السنين أن يحمل بطاقات هوية شخصية،لأنه يعتبر البطاقة الشخصية انتهاكاً صارخاً للخصوصية، فالبطاقة بالنسبة له تكشف اسمه وكنيته وبعض خصوصياته ومميزاته الشخصية، وهذه الأمور بالنسبة له أمور مقدسة لا يسمح حتى للشرطة أن تجبره على الكشف عنها، إلا في الحالات الاستثنائية.
باختصار فإن غرفة الاقتراع السرية تختزل النظام الديمقراطي بأكمله، لأنه عندما يدخلها المقترع يكون وحيداً حراً مستقلاً داخلها، ناهيك عن أنه بداخلها يقرر مصير الزعيم أو النظام الذي سيحكمه لفترة من الزمان. لهذا يمكن القول إن مصائر الأنظمة الحاكمة في الدول الديمقراطية التي تحترم نفسها تتقرر تحديداً داخل غرف الاقتراع السرية. وأشدد هنا على كلمة "سرية"، فسرية الاقتراع بالنسبة للغربيين مقدسة جداً. ومن الصعب أن تعرف كيف، ولمن صوت هذا الشخص أو ذاك داخل العائلة الواحدة في الغرب. ولا تستغرب إذا قال لك أحد أفراد العائلة الواحدة إنه لا يعرف لمن صوت أخوه أو آخته، فالأمر سري جداً، ناهيك عن أن الاتجاهات السياسية تختلف داخل البيت الواحد بفضل النظام الديمقراطي الحر، وذلك على عكس بلداننا التعيسة التي لا يستطيع فيها الفرد أن يشذ عن القطيع العام، فما بالك أن يشذ عن أفراد العائلة. وأتذكر أنني ذات يوم سألت صديقاً بريطانياً لي في لندن بعد عودته من التصويت عما إذا صوّت للمحافظين أو العمال، فرد عليّ باستهزاء شديد قائلاً: "هذا شأن لا يخصك أبداً. أرجو أن لا تتدخل فيما لا يعنيك"، مع العلم أن علاقتي به طيبة، مما جعلني أشمئز من ردة فعله الغاضبة جداً. ودخلت معه في نقاش حاد ظناً مني أنني تعرضت لإهانة لا أستحقها، لكنه أثبت لي في نهاية النقاش أنه هو على حق وأنا العربي القادم من بلاد الطغيان والديكتاتورية على خطأ مبين. ومنذ ذلك اليوم وأنا لا أسأل بريطانياً عن توجهاته السياسية أو نيته الانتخابية، لأن الغربي يعتقد أن من حقه هو وحده أن يقرر لمن يصوت في الانتخابات دون أي تدخل أو إملاء أو مساءلة من أحد. وهذا دليل صحي للغاية، فعندما يكون الناس أحراراً في خياراتهم السياسية، فلا شك أنهم سيختارون الأفضل. بعبارة أخرى فإن حرية الاختيار هي أحد أهم أعمدة الديمقراطية والنهوض بالبلاد وتقدمها، لأن الجميع في هذه الحالة يدلي بدلوه حول مصير الوطن، وذلك على عكس بلداننا البائسة التي يحتكر فيها الديكتاتور كل شيء، وينوب عن الجميع في التفكير والتخطيط والتنفيذ، بينما في العالم المتقدم ديمقراطياً تكون المسؤولية جماعية، لهذا يصر الفرد في الأنظمة الديمقراطية على أن يكون حراً تماماً في تحديد موقفه.
ولو قارنا طريقة الاقتراع السري والحر في البلدان المتقدمة بطريقة الاقتراع المعمول فيها في بلداننا مثلاً لصعقنا من هول الفارق. فقد اعتاد المواطن عندنا أن لا يحلم أبداً بوجود غرفة اقتراع سرية. ولو زرت مراكز الاقتراع لوجدت أنها تفتقر إلى تلك الغرف تماماً، وكأن السلطة تقول للمقترعين أو المستفتين إياكم أن تصوتوا بـ"لا". ولا داعي للتذكير بأن لا انتخابات حقيقية في بلادنا منذ عقود، بل مجرد استفتاءات تخيّر المواطن بين التصويت لمرشح واحد بـ"نعم" أو "لا". والويل كل الويل لمن يصوت بـ"لا". وبينما تجد في مراكز الاقتراع في البلدان الديمقراطية موظفين مهنيين تنحصر مهمتهم في تسجيل الأسماء، تجد الموظفين المسؤولين عن الاستفتاءات في بلادنا أقرب إلى السجانين والجلادين في ملامحهم ونظراتهم، بحيث يرهبون الناخب للتصويت بالإيجاب للمرشح الأوحد غصباً عن الذين خلفوه وخلفهم.
كل المواطنين في بلادنا يصوتون أمام موظف الصندوق. وكل من يتوجه إلى غرفة الاقتراع السرية، إن وجدت، سيتم تسجيل اسمه فوراً لتنزل عليه لاحقاً كل لعنات الدنيا. لهذا يضطر الناس المساكين إلى التصويت على رؤوس الأشهاد بـ"نعم" كبيرة أمام موظف الصندوق الإرهابي كي يحفظوا رقابهم ولقمة عيشهم. والأكثر من ذلك أن بعض المنافقين يقوم بغرز دبوس صغير في إصبعه ثم يصوت بالدم، مما يضاعف حسناته عند السلطة، خاصة أن حكامنا يموتون في دباديب المنافقين والكذابين من المواطنين، ويفضلونهم على الصادقين والشرفاء.
ولا ننسى أن نتيجة الاستفتاء وصلت في أحد البلدان ذات مرة 117 %، فتبين لاحقاً أن كثيراً من الأموات شاركوا في الاستفتاء العظيم. وحدث ولا حرج عن أولئك الذين ينتقلون من مركز إلى مركز للتصويت مرات ومرات للتأكيد على وطنيتهم الزائدة، ناهيك عن الشرطة كانت تلجأ أحياناً إلى إيقاف المارة وإجبارهم على التصويت في الاستفتاءات غصباً عن الذين خلفوهم.
وكم كان الفنان أبو عنتر محقاً في أحد المسلسلات عندما قال لزملائه الذين انتخبوه ليصبح زعيمهم في "القاووش": "أنتم صوتوا على كيفكم وأنا أعد الأصوات على كيفي".
وهناك نكتة سمجة حول التصويت في البلدان الديكتاتورية إذ توجه أحد المواطنين يوماً إلى غرفة الاقتراع السرية، وصوت للرئيس بـ"لا"، وعندما عاد إلى بيته سألته زوجته: "كيف صوتَ"، فقال مزهواً: "صوتُ بـ"لا"، فأغمي على زوجته فوراً، ولما أفاقت ناشدته بالعودة إلى مركز الاستفتاء كي يصحح خطيئته الكبرى، وفعلاً عاد الرجل إلى المركز، وناشد الموظف أن يغير له التصويت من لا إلى نعم، فأجابه الموظف المسؤول عن الصندوق: "لا تقلق يا ابني: لقد صححنا لك الخطأ بعد خروجك من المركز فوراً. اذهب، لكن لا تحاول أن تعيد الخطيئة في الاستفتاءات القادمة". وبذلك عادت الروح لصاحبنا ثانية.
عزيزي المواطن: طالما أنك تخاف من دخول غرفة الاقتراع السرية، فاعلم أنك مجرد بيدق أو مويطن، ولست مواطناً!