أحدث الأخبار
الاثنين 25 تشرين ثاني/نوفمبر 2024
نداء القدس: قبل أن تختفي هوية المدينة وعروبتها !

بقلم : خالد الحروب  ... 15.11.07

«لم يهتم الفاتحون المسلمون بالمدينة ولم يعطوها أية أهمية، فهي أيضا لم تذكر في القرآ ن»، هذا ما يقوله كتاب الدليل السياحي، بالإنجليزية والفرنسية والعبرية، الأشهر ـ في القدس ـ واصفا فتح المسلمين للمدينة بقيادة عمر بن الخطاب. يتابع «الدليل»: «وكان العرب يسمون المدينة بـ«مدينة الهيكل» (!) واهتموا بالبناء فوق مكان الهيكل، ففي عهد الخليفة عبدالملك تم بناء قبة الصخرة، وفي عهد ابنه الوليد بني المسجد الأقصى، أما في عهد الحكم فقد دمرت جميع الكنائس والمعابد اليهودية وحولت إلى مساجد!». كل هذا التزييف التاريخي احتوته ثمانية أسطر فقط محشورة تحت عنوان «مرحلة دخول الإسلام اورشليم القدس»، وذلك في سياق تسلسل زمني يصف الدول والأمبراطوريات التي مرت على القدس. قبل تلك المرحلة يفصل «الدليل» مراحل سابقة تتضمن الحكم الفارسي، والحكم البيزنطي، والحكم الروماني والهليني وقبله مملكة «الإسرائيليون». وهنا طبعا يتوسع «الدليل» في شرح ووصف السبعين سنة ويفرد لها ضعف ما يفرد لحكم الكنعانيين الذي سيطر على فلسطين لمدة ألفي عام! وعلى كل حال نعرف أن الهوس بالتاريخ وبإعادة كتابته وتركيبه بشكل يخدم الحاضر هو مرض الباحثين عن شرعيات اغتصاب الحاضر نفسه. لكن ما هو أهم من تزييف التاريخ وخوض معارك نصيه ووهمية دونكوشيتيه، هو ما يحدث في القدس اليوم من تدمير يومي ومتواصل لهويتها العربية، ومحاصرة وتضييق على سكانها العرب من وفي كل الجهات.
في سلوان، إلى الجهة الجنوبية من البلدة القديمة في القدس، لم يكف الإدارة الإسرائيلية اكتظاظ الحي بسكانه الفلسطينيين واختناقهم فيه بسبب قوانين البلدية الإسرائيلية العنصرية التي تحظر البناء أو التوسع على الساكنين. بل زيد على ذلك بالسماح للمستوطنين بالتسلل التدريجي إلى داخل الحي وتملك بعض الأبنية والسكن فيه، وما يلي ذلك من إجراءات أمنية لحماية عائلة يهودية هنا، أو هناك، جالبة ضنكا إضافياً لأهل الحي.. ولاستفزاز السكان الفلسطينيين يرتفع على بيت مستوطن هنا أو هناك وفي قلب الأحياء العربية علم إسرائيل، إمعانا في ادعاء التملك. ما يحدث في سلوان يحدث في كل مكان في القدس العربية، بدءا من بلدتها التاريخية القديمة وخروجا منها في كل الاتجاهات. في البلدة القديمة نفسها تعمل الحفريات الإسرائيلية سواء عند باب المغاربة أو غيره بتؤدة على خلق أنفاق قريبا من المسجد الأقصى وتحته، بحثا عن بقايا الهيكل. وقريبا من الحائط الغربي، وفي الجهة المقابلة له، حيث بعض متاجر التحف اليهودية يعرض أحدها مجسماً للهيكل الذي يريد المتدينون بناءه مكان المسجد الأقصى وقبة الصخرة مكتوب عليه: «اشتر المجسم الآن بسعر رخيص قبل أن يتم بناء الهيكل الحقيقي وترتفع أسعار المجسم بشكل كبير»!
في طول وعرض القدس الشرقية وفي كل زاوية من زواياها هناك جهد إسرائيلي استطياني هدفه تغيير هوية المدينة والقضاء على عروبتها. وجدار الفصل العنصري اشتغل في جنباتها كما تشتغل السكين الحادة تقطيعاً وشطبا وضماً، بحسب الوصف الحزين والغاضب للدكتور مهدي عبدالهادي، أحد حملة هم القدس والمشتغلين فيه، وهو يتحدث أمام مؤتمر ضم قيادات من السلطة الفلسطينية وسياسيين أوروبيين، سائلاً إياهم عما يفعلونه إزاء الواقع اليومي المتدهور للمدينة؟ قال الدكتور عبد الهادي لن يتبقى من القدس الشرقية ما يمكن أن يُتفاوض عليه كي يكون عاصمة للدولة الفلسطينية. وفي حديث جانبي ناولني نسخة من بيان معنون بـ«وثيقة مقدسية ـ نوفمبر 2007» هي نداء من أعيان القدس لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من هوية وشكل القدس العربية. يقول النداء الذي وقعه أكثر من مائة شخصية اعتبارية ورجال دين مسلمين ومسيحيين: إننا ومنذ الاحتلال الإسرائيلي في يونيو 1967 نعيش إجراءات عزل المدينة عن محيطها العربي وفصلها عن بقية الأراضي المحتلة، وحصارها بسلسلة من المستوطنات وجدار الفصل العنصري الذي يقطع أحياءها ويشكل في مجموعه مهمة «أسرلة المدينة» عبر الإجراءات التالية: تغيير الوضع الراهن للمدينة عبر إجراءات ضمها لإسرائيل بشكل مخالف لجميع الأعراف والقوانين الدولية، خلق حقائق جديدة مكان وبدل المعالم الأثرية والتاريخية والدينية والمجتمعية العربية الإسلامية والمسيحية فيها وخاصة في استمرار الحفريات في محيط المسجد الأقصى المبارك وأبوابه التاريخية «باب المغاربة». وأيضا مصادرة الأراضي والممتلكات وإجراءات هدم البيوت الفلسطينية، وتقييد حقوق السكن والعمران، فرض سياسات التطهير العرقي على المواطنين ومنها إجراءات الاعتقال والإبعاد وإلغاء حقوق المواطنة ومنع الدخول والإقامة والعمل للفلسطينيين من بقية الأراضي المحتلة، ربط هذه الإجراءات بمخططات «أسرلة القدس» بزرع مستعمرات إسرائيلية فيها وحولها وفرض الأنظمة والقوانين الإسرائيلية في كافة أمور الحياة. كما أصبحت إجراءات «الأسرلة» ميادين منافسة وتسابق بين مؤسسات وأجهزة سلطات الاحتلال، وتجاوزا لكل الأعراف والتقاليد الإنسانية والقانونية لحقوق الإنسان. يرفض أهل القدس وأعيانها، كغيرهم من الفلسطينين هنا في المدن والمخيمات، أن يتم التنازل باسمهم عن حقوقهم. وتقول وثيقتهم الخاصة بالقدس: «إننا نسجل رفضنا ومعارضتنا لأية مشاريع تفاوضية أو اتفاقيات مرحلية حول قضية القدس تتجاوز حقوقنا الوطنية والشرعية والدولية فيها». وتتوجه الوثيقة بالنداء إلى الفلسطينيين ثم العرب والمسلمين للدفاع عن عروبة القدس في وجه عمليات «الأسرلة اليومية»، ثم يختم المقدسيون وثيقتهم بصيحة لا يعرفون ولا نعرف إن كانت ستصل إلى آذان أحد تقول «وإننا بهذا النداء لنحمل أصحاب القرار الفلسطيني والعربي والإسلامي وأصحاب الفكر والرأي والقيادات المجتمعية مسؤولية أمانة حماية القدس ومقدساتها أمام الأمة والتاريخ».
قبل عدة أشهر من صدور هذه الوثيقة، وتحديداً في شهر مارس الماضي، كان الشيخ تيسير التميمي قاضي قضاة فلسطين، والأب عطا لله حنا رئيس أساقفة الروم الأرثوذكس قد أسسا «الجبهة الإسلامية ـ المسيحية للدفاع عن القدس»، مدفوعة بالواقع المتدهور للمدينة، وبأمل تحريك أوسع شرائح ممكنة داخل فلسطين وخارجها للوقوف ضد إجراءات «أسرلة» المدينة والقضاء على ما تبقى من شخصيتها العربية. منذ ذلك التاريخ أصدرت الجبهة عدة تقارير ترصد بالتفصيل ما تقوم به إسرائيل من إجراءات، سواء من حفريات تحت المسجد الأقصى إلى الضم والاستيطان، ووصولا إلى المؤتمرات الإسرائيلية التي يعقدها غلاة اليمين المتدين وتطرح فيها «رؤيتهم» لمستقبل المدينة.
رسالة أهل القدس للعرب والمسلمين والعالم في الخارج مريرة واستغاثية: من دون القدس لن يكون هناك سلام في هذه المنطقة، ومن دون أن تكون هناك قدس عربية لن يكون هناك أي اتفاق. الحفاظ على هوية القدس مسؤولية جماعية تتجاوز قدرة الفلسطينيين المطحونين تحت الحصار. في سنة 2009 ستكون القدس «عاصمة الثقافة العربية». وعلى الفلسطينيين استغلال تلك السنة لإيصال رسالة القدس إلى العرب أولاً، ثم إلى العالم. وعلى العرب بدورهم أن يحتضنوا رسالة القدس ويرسلوا لسكانها القابضين على جمْر الصمود فيها ما يشعرهم بالتضامن على الأقل. وربما جاز لهذه السطور أن تختم بالتساؤل عن منظمة ما، تم تأسيسها في زمن بات سحيقا الآن، عام 1969، اسمها منظمة المؤتمر الإسلامي تأسست رداً على حريق المسجد الأقصى في ذات العام، أين هي الآن وماذا تفعل بالضبط، وأين هي «لجنة القدس» التي انبثقت عنها وتأسست عام 1975؟