بقلم : د.فيصل القاسم ... 18.03.2012
الثوار مطالبون ببناء الديمقراطية للرد على الأعداء
من أكثر الحجج التي ساقها أعداء الثورات العربية ضد اندلاع الربيع العربي أن ما يحدث في المنطقة منذ عام ونيف لا ثورات ولا يحزنون، بل مجرد تطبيق عملي لنظرية "الفوضى الخلاقة" التي أطلقتها وزيرة خارجية الولايات المتحدة السابقة كوندليزا رايس والتي تهدف من ورائها إلى تقسيم المقسم وتجزئة المجزأ. بعبارة أخرى، فإننا ربما نتحسر يوماً على اتفاقية "سايكس- بيكو" سيئة الصيت، لأنها، على الأقل، قسمت العالم العربي إلى دول، أما "الفوضى الخلاقة"، فإنها ستقسم عالمنا المقسم أصلاً إلى دويلات ومحميات على أسس قبلية وعشائرية وطائفية، خاصة أن المفكر البريطاني الأمريكي الشهير بيرنارد لويس، حسب المشككين بالثورات، كان قد طرح في الماضي مخططات واضحة لتقسيم المنطقة.
وكان أعداء الثورات المرتبطون ارتباطاً وثيقاً بالطواغيت العرب الساقطين والمتساقطين يتصيدون أي خطأ بسيط يقترفه الثوار، ثم يقومون بتضخيمه في وسائل إعلامهم الغوبلزية على أمل إحباط الشعوب من الثورات وتصويرها على أنها مجرد مؤامرات خارجية لا تريد للعرب سوى الفرقة والتشرذم والقضاء على الكيانات الوطنية التي ترسخت على مدى أكثر من نصف قرن من الزمان. طبعاً، آخر الناس الذين يحق لهم الحديث عن وحدة الأوطان هم الطواغيت العرب وأزلامهم الذين لعبوا دوراً شيطانياً حقيراً فيما وصلت إليه بلداننا من تشرذم وفرقة وتخبط وانقسامات بسبب سياساتهم الديكتاتورية والشوفينية الساقطة. لكنهم، وكي يحافظوا على الأوضاع القديمة التي مكنتهم من التنكيل بالشعوب ونهب ثرواتها، راحوا يحذرون من أن الثورات ستؤدي في النهاية إلى الترحم على الأنظمة القديمة التي، على الأقل، حافظت على استقرار البلدان التي حكموها وعلى وحدة ترابها الوطني. ورغم أن تحذيراتهم هي حق يراد به باطل، إلا أنها، وللأسف الشديد، بدأت تجد لنفسها آذاناً صاغية في الأوساط السياسية والإعلامية والثقافية العربية المختلفة، خاصة بعد أن بدأ بعض الثوار هنا وهناك ينزعون باتجاه الانفصال بدل النزوع باتجاه الوحدة والتكتل والديمقراطية، وكأن الهدف من الثورات الانتقال من طاغوت كبير إلى طاغوت صغير.
ومن سوء الحظ أن بعض الثورات قدمت لنا أمثلة سيئة للغاية على أنها ستؤدي فعلاً في نهاية المطاف إلى تطبيق نظرية "الفوضى الخلاقة" بدل تحقيق الديمقراطية والقضاء على الظلم والطغيان. صحيح أن النظام المصري الساقط بزعامة حسني مبارك وعصابته عمل على الدوام على نشر الفرقة والانقسام بين الأقباط والمسلمين في البلاد تطبيقاً للمبدأ الاستعماري الشهير "فرق تسد".
وصحيح أيضاً أن تفجير كنيسة "القديسين" كانت بإيعاز من وزير الداخلية السابق حبيب العادلي كي يؤلب المسيحيين على المسلمين ويخلق نزاعاً يمكـن النظام من استغلاله لإطالة بقائه في الحكم، إلا أن الثوار كادوا يقعون في الأفخاخ التي كان ينصبها النظام السابق بعد الثورة. ولعلنا نتذكر حادثة "ماسبيرو" التي كادت تشعل نزاعاً طائفياً في البلاد لا يبقي ولا يذر.. أضف إلى ذلك أيضاً حوادث البلطجة والترويع التي لجأ إليها البعض مستغلين بذلك أجواء الثورة والتحرر. مثل هذه الأحداث المؤلمة دفعت بأعداء الثورات والثورات المضادة إلى استغلال تلك الأفعال وتصويرها على أن الثورة لم تنتج سوى التشرذم والفوضى. وهذا طبعاً هراء، لكن يجب الانتباه له، لأن المتربصين بالثورات يبحثون عن أصغر الهفوات كي يكبروها ويضخموها ويسيئوا من خلالها لفكرة الثورة.
ولا ننسى ما قامت به بعض فصائل الثورة السورية، عندما راح البعض يطالب بالحكم الذاتي والانفصال عن الوطن الأم حتى قبل أن تضع الثورة أوزارها، وكأنهم يؤكدون للعالم أنهم يطبقون نظرية "الفوضى الخلاقة" بحذافيرها في عز الثورة. وهذا طبعاً يسيء للثورة، ويمكن أن يدفع بالكثيرين إلى النأي بأنفسهم عن الانخراط فيها لأنها قد تؤدي لاحقاً إلى شرذمة البلاد التي دفعت دماء غزيرة جداً من أجل التحرر والحفاظ على وحدتها الوطنية. ناهيك عن مثل هذه الأفعال الانفصالية ستقوي موقف الحكام الذين ثارت عليهم الشعوب.
ولعل أكثر الأمثلة التي تثلج صدر المعادين للثورات والمترحمين على الطغاة أن بعض الفصائل الليبية راحت تدعو علناً للانفصال على أساس فيدرالي، كما فعلت منطقة "برقة" وغيرها. إن ما أقدم عليه بعض الليبيين يجعل القاصي والداني يلعن الساعة التي قامت فيها الثورات. ألم يكن الهدف من الثورات بالدرجة الأولى التخلص من الطواغيت الذين كانوا جاثمين على صدور الشعوب منذ عشرات السنين؟ ألم يكن الهدف الأول والأخير التحرر من الظلم والطغيان؟ فلماذا إذن راح البعض يطالب بتحقيق أهداف لا علاقة لها بالثورة لا من بعيد ولا من قريب؟ ألا تخدم فكرة الفيدرالية الأهداف الاستعمارية التي كان يحذر منها القذافي على مدى عقود؟.. والأمر الآخر، هل تتحمل ليبيا نظاماً فيدرالياً وعدد سكانها لا يزيد على خمسة ملايين نسمة موزعين على مساحة هائلة؟ أليس أولى بالشعب الليبي أن يرص صفوفه لبناء نظام ديمقراطي يحترم الجميع بعد سقوط الطاغية القذافي بدل اللعب على الأوتار القبلية والجهوية والعشائرية المقيتة التي ستعيده إلى زمن داحس والغبراء بدل انخراطه في عصر التكتلات والعولمة؟ لا أحد سيلوم الليبيين إذا ترحم أحدهم على الديكتاتور الهالك القذافي عندما يرى بعض الثوار وهم يحاولون تمزيق البلاد إلى كانتونات وإقطاعيات جهوية وقبلية؟ لا شك أن الكثيرين، خاصة أنصار العهد القديم، سيجدون آذاناً صاغية عندما يقولون: "رحمة الله على القذافي لأنه، رغم ظلمه وطغيانه، لكنه، على الأقل، حافظ على وحدة التراب الليبي لأكثر من أربعة عقود".
نرجوكم أيها الثوار في كل البلدان العربية الثائرة والتي ستثور: لا تجعلوا الشعوب تترحم على الطواغيت، بحجة أنهم حافظوا على وحدة الأوطان، بينما أنتم مزقتموها إرباً إرباً بثوراتكم التي لم تكن في النهاية سوى "فوضى هلاكة"، كما يتشدق أعداء الثورات! تعالوا نبني ديمقراطيات بعد الثورات لا إقطاعيات.