بقلم : نقولا ناصر* ... 29.09.2012
(لم يتحدد بعد أي تاريخ لعرض طلب التصويت على قبول فلسطين دولة غير عضو في الأمم المتحدة على جمعيتها العامة لأن "مشروع القرار" ليس جاهزا)
كل الدلائل تشير إلى أن الرئيس الفلسطيني محمود عباس على وشك التراجع مجددا، للمرة الثانية خلال عام، لتضييع فرصة الاستفادة من وجود أكثرية كافية في الجمعية العامة للاعتراف بفلسطين دولة مراقبة غير عضو في الأمم المتحدة، تحت غطاء منح "فرصة قد تكون الأخيرة"، بل "وهي الأخيرة"، للمجتمع الدولي لإنقاذ "عملية السلام" كما قال في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة يوم الخميس الماضي.
ويتذرع عباس بمسوغات لا يجادل أحد في كونها قاهرة، مثل الضغوط والتهديدات من الولايات المتحدة ودولة الاحتلال الإسرائيلي بقطع شريان الحياة المالي لسلطة الحكم الذاتي الفلسطينية، وانشغال جامعة الدول العربية بأولويات إقليمية تهمش مركزية القضية الفلسطينية على جدول أعمالها، وانكفاء دول "الربيع العربي" إلى شؤونها الداخلية، وضعف الموقف الفلسطيني الناجم عن الانقسام الوطني، لكنها مسوغات يجادل كثيرون بإمكانية التغلب عليها لو قرر عباس بصورة جادة البحث عن استراتيجية بديلة للاستراتيجية التي حاصرته وشعبه وقضيتهم في سجن الارتهان لها.
ففي اجتماع "خاص" مع قادة اليهود الأمريكان في نيويورك مساء الاثنين الماضي، استضافه رئيس مركز اس. دانييل ابراهام للسلام في الشرق الأوسط روبرت ويكسلر، تمسك عباس بذات الاستراتيجية عندما قال إنه "من الواضح اليوم لغالبية الفلسطينيين أن تحقيق الحلم الفلسطيني يتطلب اتفاقا وتسوية تاريخية مع إسرائيل"، مما دفع ويكسلر إلى التصريح بعد الاجتماع بأن عباس "معني حقا بايجاد صيغة للعودة إلى المفاوضات"، في "المستقبل القريب"، "إذا وافقت تل أبيب على تجميد بناء مستوطنات جديدة".
لكن كان أهم هذه التسريبات هو أن عباس أوضح بأنه "قرر عدم تجديد محاولته طلب" التصويت على الاعتراف بدولة فلسطين في الأمم المتحدة "هذا الأسبوع"، بعد أن "طلبت منه شخصيا وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون الامتناع عن ذلك"إلى ما بعد انتخابات الرئاسة الأمريكية في السادس من الشهر المقبل، بالرغم من القول الذي نسب إليه في اجتماع قيادة منظمة التحرير الفلسطينية في الخامس عشر من هذا الشهر إن الحصار الاقتصادي للسلطة الفلسطينية تطبقه أولا وفي المقدمة الولايات المتحدة.
ولم ينف عباس أو الناطقون باسمه تلك الأقوال التي حرص مضيفوه على تسريبها إلى وسائل الإعلام الأمريكية، أو يصححها، في الأقل حتى كتابة هذه السطور، لكن وزير خارجيته د. رياض المالكي لم يترك مجالا لعدم تصديقها عندما أعلن أنه لم يتحدد بعد أي تاريخ لعرض الطلب على التصويت في الجمعية العامة، لأن "مشروع القرار" أو مسودته ليس جاهزا، وأن عباس أصدر تعليماته للوفد الفلسطيني في الأمم المتحدة للبدء في الاتصالات والتحضيرات لصياغة مشروع القرار.
ومن الواضح أن هذه حجة واهية غير مقنعة للتغطية على الاستجابة لطلب هيلاري كلينتون الامتناع عن القيام بأية "أفعال أحادية الجانب في الأمم المتحدة في قضايا يمكن تحقيقها فقط عبر مفاوضات مباشرة" مع دولة الاحتلال الإسرائيلي كما قالت ايسثر بريمر، مساعدة كلينتون لشؤون المنظمات الدولية، يوم الجمعة الماضي، فبعد عامين من الإعلان عن قراره التوجه إلى الهيئة الأممية وعشرات الزيارات الرئاسية والاتصالات مع العواصم العربية والدولية لهذا الغرض يصبح أي حديث عن كون مشروع القرار "ليس جاهزا" ورقة توت بالكاد تكفي للتغطية على قرار جديد بالتراجع مجددا.
وإذا كان مسوغ الضغوط الأمريكية ومن دولة الاحتلال جليا ساطعا كالشمس لا يترك مجالا للشك في جدية تهديداته، فإن مماطلة جامعة الدول العربية وترددها في دعم الطلب الفلسطيني، في ضوء نصيحة أمينها العام د. نبيل العربي بتأجيل طلب التصويت عليه في الجمعية العامة، هي مسوغ لا يزال يشوش وضوحه حرص قيادة منظمة التحرير على لغة دبلوماسية ملتبسة في التعامل معه حرصا على عدم قطع "شعرة معاوية" مع الجامعة العربية و"مبادرة السلام العربية" التي تتبناها الجامعة وقمم رؤسائها، بالإضافة طبعا إلى الحرص الفلسطيني على وفاء المانحين من دولها بتعهداتهم المالية للسلطة الفلسطينية.
وإذا لم يكن من المتوقع أن يأتي نظام الجامعة العربية بجديد في الأمم المتحدة أو خارجها يمكنه أن يغير في ما وصفه الرئيس المصري محمد مرسي ب"مأساة العصر" في خطابه أمام الأمم المتحدة يوم الأربعاء الماضي، فإن متغيرات "الربيع العربي" قد شغلت الأنظمة الجديدة المنبثقة عنه بشؤونها الداخلية انشغالا لا يبدو حتى الآن أنه سوف يسمح لها في أي وقت قريب بأي تغيير جذري في مواقف الأنظمة السابقة في دولها من القضية الفلسطينية، كما يتضح في الحالة المصرية من خطاب مرسي المشار إليه.
صحيح أن الرئيس مرسي قال في كلمة افتتاحه لأعمال مجلس الجامعة العربية بالقاهرة في الخامس من الشهر الجاري إن الأمة العربية هي جزء لا يتجزأ من رؤية مصر لأمنها القومي وسوف تعود مصر إلى أمتها "بكل قوة"، و"لن تنهض أمتنا العربية دون حل عادل للقضية الفلسطينية"، و"لم يعد ممكنا الاستمرار في تجاهل الواقع الفلسطيني"، ووصف ما يسمى "عملية السلام بأنها "عملية بلا مضمون، من مفاوضات لا نهاية لها وترتيبات غير جادة تضيع الوقت والفرص"، لكن كل ذلك لا يعدو كونه مجرد إعلان نوايا يعيد للشعب الفلسطيني بعض الأمل في ترجمته إلى أفعال مستقبلا، لكنه إعلان نوايا محكوم في الوقت الحاضر بسقف التركة الثقيلة التي أورثها لمصر نظام حكمها السابق، كما اتضح من خطاب مرسي في الأمم المتحدة.
صحيح أن الرئيس المصري بقوله "إن أولى القضايا التي ينبغي أن يشترك العالم في بذل كل جهد ممكن لتسويتها على أسس العدالة والكرامة هي القضية الفلسطينية" قد منح أولوية لهذه القضية دفعتها إلى الهامش أحداث "الربيع العربي" وغيرها من القضايا الإقليمية الساخنة في إيران وسورية، غير أن سقف الموقف المصري الجديد هو سقف الجامعة العربية ومنظمة التحرير، وكما قال: "لقد اختارت القيادات الفلسطينية مجتمعة طريقا واضحا للحصول على حقوق الشعب الفلسطيني داخل وخارج أرض فلسطين، وساندها العالم العربي في هذا الخيار، بل وقدم مبادرة شاملة للسلام، ... سلام يؤسس دولة فلسطينية، مستقلة، ذات سيادة، ويحقق أمنا واستقرارا طال انتظاره لجميع شعوب المنطقة"، وهو كذلك سقف الاتفاقيات التي قيد بها النظام السابق سيادة مصر وحرية قراراها، ولذلك قال مرسي "بوضوح، لمن يتساءلون عن مواقفنا مما أبرمناه من معاهدات واتفاقيات دولية، اننا ملتزمون بما وقعنا عليه".
إن استدراك مرسي بالقول "اننا في نفس الوقت داعمون للحقوق الفلسطينية غير القابلة للتصرف، عازمون على مواصلة العمل إلى جانب الفلسطيني لينال كل حقوقه"، بما في ذلك تأييد طلب عضوية فلسطين في المنظمة الأممية، هو تعبير عن حسن النوايا، لكن فك الحصار العربي عن قطاع غزة من بوابته المصرية لا يزال اختبارا لحسن النوايا لم ينته منه العهد الجديد بعد، وعلى سبيل المثال فإن الأنفاق المغلقة تحت سطح الأرض لم تجد بديلا لها فوق سطحها، لا في منطقة تجارة حرة على الحدود ولا في معبر تجاري بدل معبر كرم أبو سالم. حقا إن تركة النظام السابق ثقيلة.