بقلم : نقولا ناصر* ... 09.10.2012
إن استعصاء توحيد المعارضة السورية، وفشل كل الجهود من أجل البدء في حوار وطني، وتصعيد العنف حد الإرهاب ضد الدولة والرد عليه بتصعيد مماثل، وعسكرة الاحتجاجات السلمية وتهميشها، وتصعيد التدخل الخارجي العربي والأجنبي بالتسليح والتمويل والمخابرات والدعاية والعقوبات الاقتصادية والسياسية في أزمة لها مسوغاتها الموضوعية الداخلية التي استغلتها قوى اقليمية ودولية لأقلمة الأزمة وتدويلها، هي جميعها وغيرها عوامل تؤكد أن المشروع الأمريكي لسورية الغد قد نجح حتى الآن في تحييد وعرقلة وتأجيل أي مشروع وطني سلمي انتقالي لسورية الغد.
وتوجد اليوم معارضة وطنية سورية تتمتع شعبيا وسياسيا بالحضور والصدقية ولها مشروعها لسورية الغد الذي يرفض التدخل الخارجي والعنف بكل أشكالهما ويدعو إلى حل سلمي للأزمة عبر الحوار الوطني والبناء على منجزات المرحلة السابقة والقضاء على سلبياتها.
كما أن سلسلة الإصلاحات الجذرية التي أضفى الحكم الصفة القانونية عليها وشملت إلغاء دستوريا لنظام حكم الحزب القائد وأقرت التعددية السياسية وألغت حالة الطوارئ واعتمدت قوانين جديدة للأحزاب والحكم المحلي والانتخابات والقضاء والحريات العامة والفردية هي إصلاحات لم تترك مجالا للشك في وجود مشروع تقوده الدولة وبدأ تطبيقه فعلا لسورية الغد أرسى خلال مدة زمنية قياسية أسسا للمستقبل لم تنجز مثلها حتى الآن لا جمهوريات ما يسمى "دول الربيع العربي" ولا الملكيات التي مسها ذلك الربيع دون أن يغير فيها شيئا جذريا.
ناهيك عن المشاريع الروسية والصينية التي تعتمد القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة أساسا للانتقال إلى سورية الغد.
لكن هذه المشاريع تحطمت على صخرة مشروع أمريكي يخطط لسورية غدا مختلفا غير الغد الذي يريده أهلها.
في الرابع من الشهر الجاري استضاف معهد السلام الأمريكي في العاصمة واشنطن مجموعة من "المعارضة السورية" ممن شاركوا في "مشروع اليوم التالي: دعم انتقال ديموقراطي في سورية" بعد "سقوط النظام" الذي يأملون فيه بدمشق، وحسب الموقع الالكتروني للمعهد بلغ عدد المشاركين فيه أربعة وخمسين معارضا "جمعتهم وزارة الخارجية" الأمريكية ويمثلون "المجلس الوطني السوري" و"أعضاء من لجان التنسيق المحلية في سورية وشخصيات غير منظمة من داخل سورية والمهجر" وجماعة "الإخوان المسلمين السوريين"، انقسموا إلى ست مجموعات عمل، شاركت ألمانيا والإمارات العربية المتحدة في رئاسة مجموعة النقاهة الاقتصادية والتنمية منها، بينما عملت مجموعة التخطيط للمرحلة الانتقالية بتوجيه من جامعة الدول العربية، واستغرق العمل في المشروع في العاصمة الألمانية برلين من كانون الثاني إلى حزيران 2012، وموله معهد السلام الأمريكي والمعهد الألماني للشؤون الدولية والأمنية بالإضافة إلى منظمتين غير حكوميتين من هولندا (هيفوس – Hivos) والنرويج (نورف – Noref)، وجرت أعماله "بصورة سرية" بحجة "ضمان أمن المشاركين فيه"، وتتكون "اللجنة التنفيذية" للمشروع "بصفة رئيسية من مثقفين يعيشون في المنفى".
وقال ستيفن هيديمان مستشار "مبادرات الشرق الأوسط" في معهد السلام الأمريكي، الذي يقود المشروع ويتقن اللغتين العبرية والعربية وعمل سابقا في "مركز سابان لسياسة الشرق الأوسط" المؤيد لدولة الاحتلال الإسرائيلي، إن ممثلي "الجيش السوري الحر" لم يشاركوا في المشروع، بالرغم من أن هذا الجيش تحول إلى أداة أمريكية عسكرية على الأرض لتنفيذه. وكان هيديمان قد بدأ الإعداد للمشروع في منتصف عام 2011 المنصرم.
علما بأن معهد السلام الأمريكي المبادر للمشروع يموله الكونجرس ويضم في عضوية مجلس إدارته رئيس جامعة الدفاع القومي التابعة للبنتاغون ونائب وكيل وزارة الدفاع للشؤون السياسية ونائبا لوزيرة الخارجية بصفاتهم الوظيفية وكان وزير الدفاع السابق روبرت غيتس نائبا لرئيسه ما ينفي عنه أي صفة "مستقلة" كما يصف المعهد نفسه.
في الرابع من آب الماضي كشفت النيويورك تايمز أن "البنتاغون، إلى جانب القيادة الوسطى" أقاما مجموعة من "خلايا التخطيط" للمشروع "تعرف باسم فرق عمل الأزمة"، وأن مجموعة "خلايا" مماثلة أنشئت بوزارة الخارجية منسقها مساعد وزيرة الخارجية ويليام جيه. بيرنز، ومنها السفير المنسحب من دمشق روبرت اس. فورد، وفرد هوف الممثل الخاص لوزيرة الخارجية هيلاري كلينتون بشأن سورية الذي استقال من الوزارة آخر الشهر الماضي، ولاري ويليامسون نائب كلينتون بالوكالة لشؤون الشرق الأدنى، ما يحول "مشروع اليوم التالي" إلى مشروع أمريكي استراتيجي ل"تغيير الدولة" السورية بكل الوسائل المتاحة.
توصيات
وأقر "مشروع اليوم التالي" الأمريكي "توصيات" قرر من أجل تنفيذها فتح "مكتب مؤقت" في اسطنبول ل"شبكة دعم الانتقال السوري"، وهو ذات الاسم الذي تحمله وحدة في معهد السلام الأمريكي مديرها رامي نخلة الذي كان ضمن أربعة منسقين رئيسيين للمشروع ومجموعات العمل فيه بالإضافة إلى ستيفن هيديمان ومورييل اصيبيرغ وسكينة عبوشي من كادر المعهد.
وأي استعراض سريع لوثيقة المشروع وتوصياته كما نشرها المعهد الألماني المساهم في تمويله على موقعه الالكتروني لا يترك مجالا للشك في أن المشروع الأمريكي لسورية الغد لا يستهدف "تغيير النظام" فحسب بل وتغيير الدولة السورية ودورها الاستراتيجي والإقليمي، ما يفسر الإصرار الأمريكي على إجهاض أي مشروع وطني للتغيير وحل الأزمة سلميا عبر الحوار.
فعلى سبيل المثال، يوصي المشروع بالعودة إلى "دستور عام 1950 بنسخة معدلة" ما يعني إلغاء كل ما جاء بعده، ويشمل ذلك طبعا مكتسبات العمال والفلاحين والإصلاح الزراعي والقطاع العام.
ويوصي بالترخيص القانوني ل"الأحزاب السياسية غير حزب البعث والمنتسبين له" ما يعني "اجتثاثا" للبعث على الطريقة العراقية.
ويوصي بإجراء "تدقيق في الضباط الكبار المتقاعدين والعاملين في الجيش والشرطة للتعرف على غير الموثوق فيهم" ما يعني حلا للقوات المسلحة والشرطة على الطريقة العراقية لكن بنسخة سورية.
ويوصي بإعادة الهيكلة الاقتصادية بتعزيز المقاولات الحرة وتنمية القطاع الخاص ما يعني بيع القطاع العام وإلغاء أو تهميش خدماته المجانية في التعليم والصحة ودعم الأسعار واقتصادا ليبراليا وانفتاحا اقتصاديا كان لجوء الحكم إليهما سببا رئيسيا في انفجار الاحتجاجات الشعبية عليه التي كانت صاعق تفجير الأزمة الراهنة.
ويوصي بمنح "أولوية قصوى عاجلة" لاصلاح الأضرار التي ألحقها "الكفاح المسلح" بالبنى التحتية ما يعني المسارعة إلى تحويل سورية الغد إلى مشروع استثماري ضخم لرؤوس الأموال الغربية والخليجية التي مولت هدم البنية التحتية للدولة السورية.
ويوصي ب"إصلاح القطاع الأمني" وبناء "جيش جديد" ما يعني تغيير سلاح القوات المسلحة والشرطة إلى سلاح غربي، يغرق سورية في الديون الخارجية المعدومة حاليا لشرائه، ويستغرق امتلاكه والتدرب عليه سنوات طويلة تكون ضمانة كافية لأمن دولة الاحتلال الإسرائيلي وأداة ضغط على سورية لفرض معاهدة سلام عليها معها.
كما يوصي المشروع "بالحاجة إلى تطوير وتقوية وتعزيز هوية وطنية جديدة" ما يعني تغيير عقيدة الجيش من ناحية وتغيير الهوية القومية العربية للشعب السوري من ناحية اخرى.
وهذه التوصيات وغيرها وصفة لتغيير الدولة السورية ترقى إلى إعلان حرب عليها وليست وصفة لتغيير النظام الحاكم الحالي فيها ب"دعم انتقال ديموقراطي في سورية".
توقعات
وتوقعت وثيقة المشروع التي نشرها المعهد الألماني أن "التحديات الاقتصادية والاجتماعية سوف تكون هائلة: فاستمرار انعدام الأمن سوف يعيق النقاهة الاقتصادية، وسوف تكون تكلفة التصدي للاحتياجات الانسانية وإعادة الإعمار ومواصلة التنمية ضخمة، وسوف يكون الاقتصاد قد انهار فحسب تحت العقوبات، وسوف تكون الاحتياطيات العامة قد أصبحت فارغة، وسوف تحاول قوى أجنبية متعددة تحقيق مصالحها، وسوف يكون هناك نقص في العاملين المؤهلين وإرث من الفساد المتفشي، ومن المحتمل أن يظل السكان فاقدين للثقة في السياسات العامة".
وفي السياق الاقتصادي لسورية في "اليوم التالي"، وفي تصريح لفضائية "العربية" في الخامس من هذا الشهر، قدر القيادي في "الثورة السورية" أحمد غنام خسائر سورية في "الثورة" ب(50) مليار دولار أمريكي، وقدر تكاليف إعادة إعمارها ب(60) مليار دولار مهددا الدول "التي اتخذت موقفا معاديا من الثورة" بحرمانها من المشاركة في إعادة الإعمار. وكانت الوزيرة الأردنية السابقة ووكيلة الأمين العام للأمم المتحدة للأمانة التنفيذية ل"الاسكوا"، ريما خلف، في حديث لصحيفة النهار اللبنانية أواخر الشهر الماضي قد توقعت أنه "إذا بدأ الانتقال إلى حكم ديموقراطي اليوم، فيلزمنا 7 أعوام كي تعود سوريا إلى ما كانت عليه على مستوى الانتاج عام 2010".
كما توقعت وثيقة المشروع الأمريكي "خطر تصاعد الجريمة الخطيرة خلال المرحلة الانتقالية"، وأن "تواجه الحكومة الانتقالية تحديات أمنية عاجلة مثل الاضطرابات المدنية والنهب والهجمات الثأرية ... وتحول الجماعات المسلحة إلى مليشات خاصة ترفض الخضوع للسطرة الموحدة والسلطة المدنية للحكومة المؤقتة"، إلخ.
وفي مقال لها بعنوان "سيناريو يوم القيامة، إذا سقطت سورية" نشرته الواشنطن بوست في الثاني من أيار / مايو العام الماضي كتبت ليز سلاي: "سوف يطلق سقوط الرئيس بشار الأسد طوفانا من الفوضى والصراع الطائفي والتطرف ينتشر بعيدا وراء حدودها".
لذلك، في الثاني والعشرين من شباط / فبراير الماضي، كتب قائد المشروع، هيديمان: "إذا لم تتم إدارة عسكرة الانتفاضة السورية، فمن المحتمل أن يضيع الأمل في أي تغيير له معنى في سورية". ومن الواضح أنه لا يعارض عسكرتها بل يعارض عدم التحكم في عسكرتها، لذلك دعا إلى "ضبط العسكرة غير المتحكم فيها" وإلى "وجوب التحرك بسرعة لانشاء هيئة واحدة مركزية تشرف على تدريب وتجهيز المعارضة المسلحة".
وبسبب تلك التوقعات، "تبحث الولايات المتحدة وحلفاؤها السيناريو الأسوأ الذي يمكنه أن يتطلب إدخال لغاية (60) ألفا من القوات البرية لتأمين حماية مواقع الأسلحة الكيماوية والبيولوجية" كما قال مصدر أمريكي رفض الافصاح عن هويته لموقع "ديبكا" الاستخباري الاسرائيلي في السادس عشر من آب / أغسطس الماضي، متذرعا بحجة أنه "لا يمكن تدمير هذه المواقع بالقصف الجوي بسبب مخاطرها الصحية والبيئية". وهذه بالتأكيد وصفة لإنهاء الأزمة السورية بالاحتلال الأجنبي لسورية الغد حسب المشروع الأمريكي لحل الأزمة.
في أواخر تموز / يوليو عام 2006 قالت وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة كوندوليزا رايس: "إننا ندفع قدما إلى الشرق الأوسط الجديد ... وعلى السوريين أن يختاروا".
لقد اعترفت الولايات المتحدة باستقلال سورية في السابع من الشهر التاسع عام 1946، لكن هيديمان قائد "مشروع اليوم التالي"، في مقال له بتاريخ 15/9/2009، وصف العلاقات الثنائية بعد ذلك ب"المجابهة والعداء المتبادل، تقطعها فترات قصيرة من التوافق غير المريح". فبعد ثلاث سنوات فقط كانت وكالة المخابرات المركزية الأمريكية "سي آي ايه" تتدخل في سورية لتطيح برئيسها شكري القوتلي عام 1949، ومنذ تلك السنة حتى عام 1955 نسقت خمس انقلابات عسكرية فيها، وبعد عامين حاولت الإطاحة بالرئيس السوري أديب الشيشكلي في انقلاب عسكري فانقطعت العلاقات الدبلوماسية، وبعد إعادتها انقطعت ثانية بعد العدوان الإسرائيلي عام 1967 لتستأنف عام 1974 لتضع واشنطن سورية على قائمة الدول الداعمة للإرهاب بعد خمس سنوات وتسحب سفيرها من دمشق عام 1986 لتفرض عليها سلسلة متتالية من العقوبات بلغت ذروتها في الأزمة الراهنة.
لقد كانت الدولة السورية قبل حزب البعث، وقبل إيران الاسلامية، وقبل "الربيع العربي" بزمن طويل، وبخاصة منذ وحدتها مع مصر الناصرية عام 1958، "محبطة للدبلوماسية الأمريكية عبر الشرق الأوسط" كما كتب هيديمان قائد "مشروع اليوم التالي" في مقاله المشار إليه.
ويبدو أن واشنطن وجدت في "الربيع العربي" فرصة سانحة لتغيير الدولة السورية بكاملها لفرض نظام موال لها عليها، وهذا هو جوهر الصراع الدموي الدائر في سورية وعليها اليوم.