بقلم : نقولا ناصر* ... 22.10.2012
**(الظاهرة الأهم في الصراع الدموي الدائر على الأرض العربية السورية اليوم هي ظاهرة استحالة الجمع في مكان واحد بين المدنيين وبين المسلحين الذين يدعون أنهم حملوا السلاح من أجل حمايتهم)
إن الإرهاب الذي حاول تفجير سورية طائفيا حين ضرب في باب توما بدمشق بينما كانت أجراس كنائس يوم الأحد الماضي تدعو المؤمنين إلى الصلاة من أجل المحبة والسلام هو إرهاب أعمى لا يفرق في ضحاياه من عرب سورية على أساس الجنس أو اللون أو الديانة أو العرق أو القومية، ولا يفرق بين العسكري وبين المدني منهم، أو بين المعارض وبين الموالي سياسيا، وبالتالي فإنه "ديموقراطي" بامتياز بمواصفات الولايات المتحدة إلى حد يجعل من الصعب جدا عليه إخفاء هويته الأميركية.
لكنه إرهاب أعمى لا يحاصر "النظام" الحاكم بقدر ما يحاصر المدنيين السوريين ويطاردهم في كل مكان، ويحاصر أي معارضة في الداخل تقول إنها وطنية وسلمية فيخليها من ساحة الفعل المعارض ويجردها من سلميتها ويوسع الهوة بينها وبين المدنيين بقدر ما ينزع عنها أهليتها لأي حوار وطني طالما ظلت تراوح في مواقفها من هذا الإرهاب في منطقة رمادية تجعل خطابها متلعثما وملتبسا، بينما يسقط هذا الإرهاب الأعمى أي حجة تتذرع بها "معارضة الخارج" في حماية المدنيين لاستدعاء التدخل الأجنبي بكل أشكاله.
إن الظاهرة الأهم التي يرصدها المتابع لمجريات الصراع الدموي الدائر على الأرض العربية السورية اليوم هي ظاهرة استحالة الجمع في مكان واحد بين المدنيين وبين المسلحين الذين يدعون أنهم حملوا السلاح من أجل حمايتهم، فأي منطقة يدخلها المسلحون يهجرون أهلها أو يسارع الأهالي إلى النزوح بعيدا عنهم، والأمثلة كثيرة من حلب إلى ربلة، ما يسقط حجة حماية المدنيين التي تذرع المسلحون بها للتمرد على الدولة، ويفقدهم الحاضنة الشعبية الطبيعية الوحيدة الكفيلة بضمان انتصار أي تمرد مسلح على أية دولة، وبالتالي ينفي صفة الثورة التي يطلقها المسلحون على تمردهم.
وكل مدينة أو قرية نجح المسلحون في التسلل إلى داخلها سارع أهلها إلى النجاة بأرواحهم وأعراضهم خارجها تاركين بيوتهم وأموالهم نهبا لهم، أما من عزت عليه ممتلكاته ليتركها أو بيته ليغادره أو كرامته ليسفحها تحت خيام اللجوء خارج سورية أو في بيوت الإيواء داخلها، أو لم ينجح في النجاة بنفسه منهم أو من معركة الدولة الحتمية معهم لاحقا، فقد وجدوا أنفسهم قد تحولوا دون إرادتهم إلى سلاح بشري في أيدي المسلحين يستعملونهم رهائن للمبادلة أو دروعا بشرية تؤجل أو تبطئ مهاجمة الدولة لهم.
يصف الحكم في سورية ما يجري فيها ب"المؤامرة"، ويصفه المتمردون المسلحون على الحكم ب"الثورة"، في الصراع الدموي الدائر بين الطرفين، ويقول الحكم إنه يستخدم سلاحا شرعيا لدولة شرعية لحماية المدنيين السوريين من القتل والدمار كواجب "دستوري"، ويقول المتمردون على الحكم إنهم يستخدمون سلاحهم لحماية المدنيين من عنف "النظام" كواجب "شرعي وثوري"، لكن المدنيين هم الضحية الأولى والخاسر الأكبر من استمرار هذا الصراع، وبمرور كل يوم جديد لا يتوقف فيه الصراع تزهق أرواح مدنية جديدة وتدمر البيوت المسالمة على رؤوس أصحابها من المدنيين.
لقد تذرع المتمردون في لجوئهم إلى السلاح وفي استيراد المسلحين من الخارج بحماية الاحتجاجات المدنية السلمية، لكن عسكرة هذه الاحتجاجات غيبتها عن المشهد حتى توقفت عمليا، مع أنه بعد مضي حوالي تسعة عشر شهرا على انفجار الأزمة السورية لم تظهر حتى الآن صورة واحدة تظهر فيها مظاهرة مدنية سلمية تتعرض لفتح الرشاشات عليها أو للقصف المدفعي أو الجوي، بالرغم من ظهور المئات من صور المظاهرات المكررة في كثير منها التي تهتف ب"سقوط النظام" و"تنحي الرئيس" وتطالب ب"التدخل الأجنبي" وغير ذلك من المحرمات الوطنية والقومية من دون أن ترافقها أي لقطات تبين قمعها بالعنف والسلاح على شاشة واحدة من شاشات عشرات الفضائيات التي تطوعت مجانا أن تكون متحدثة باسمهم حد المخاطرة بفقدان صدقيتها بالتخلي حتى عن الحد الأدنى من المعايير المهنية والضوابط الأخلاقية والإنسانية.
وكانت نتيجة لجوئهم إلى السلاح الذي يتدفق عليهم بسخاء - - بكل طرق التهريب غير الشرعية ابتداء من عصابات التهريب الجنائية التي تحولت بين ليلة وضحاها إلى قوى "ثورية" و"جهادية" مثلها مثل الخارجين على القانون والمطلوبين الفارين من أحكام قضائية وانتهاء بأجهزة المخابرات الأجنبية العربية وغير العربية - - ستة ظواهر لم تعد موضع شك أحد من المراقبين:
أولها الغياب الكامل للاحتجاجات السلمية.
وثانيها ممارسة الإرهاب الصريح.
وثالثها تدمير البنى التحتية للدولة السورية ويشمل ذلك المشافي والمدارس وخطوط المواصلات العامة ومنها سكك الحديد وشبكات الصرف الصحي التي عطلها المسلحون لاستخدامها أنفاقا لتنقلهم ولتهريب سلاحهم إلى داخل المدن وخطوط أنابيب نقل الوقود ودور العبادة الإسلامية والمسيحية ومكاتب الخدمات المدنية العامة للدولة التي يستفيد منها المدنيون في المقام الأول والأخير.
ورابعها ظاهرة لجوء المدنيين إلى خارج القطر أو نزوحهم داخله.
وخامسها ظاهرة الدمار الهائل الذي لحق بالحياء المدنية وبيوت المدنيين ومتاجرهم ومزارعهم ومصانعهم وأعمالهم.
وسادسها قطع الطرق الرئيسية بين المدن وتهديد أمن المطارات والمعابر الحدودية.
ويفتخر المتمردون بأنهم أصحاب "الفضل" في تحقيق كل هذه "الانجازات الثورية"، التي كانت نتائجها الملموسة انعداما للأمن الجماعي والفردي، وإرباكا في شبكات النقل والتوزيع للمواد الأساسية، ما قاد إلى ارتفاع أسعارها ونقص مناطقي في المعروض منها حسب ساحات المعارك المتحركة، لتكون هذه "الانجازات" رديفا داخليا للعقوبات الخارجية المتصاعدة والمفروضة من جانب واحد من دول "أصدقاء سورية" خارج إطار شرعية الأمم المتحدة في تحويل الحياة اليومية للمدنيين السوريين إلى جحيم.
والمدقق في الاستراتيجية والتكتيك العسكريين للتمرد المسلح تتضح له بسرعة حقيقة أن المدن والمناطق الآهلة بالسكان كانت هدفا للمسلحين منذ البداية لم يمنعهم من الوصول إليه كونه آهلا بالمدنيين وكون وجودهم فيه يعرض حياة المدنيين لخطر الموت، فهي خالية من أي تواجد عسكري للجيش العربي السوري وبالتالي يمكن اتخاذها "قواعد عسكرية" لهم تضطر الجيش الوطني إلى الخروج من قواعده البعيدة خارجها، وتستدرجه إلى الصدام معهم داخلها مما يسهل اتهامه بمهاجمة المدنيين عندما يهاجمهم.
إن ما تبثه الفضائيات المروجة ل"انجازاتهم" عن قيام الجيش العربي السوري بقصف المدن جملة إعلامية مجتزأة وناقصة لا تقول الحقيقة كاملة، لأنها لا تقول إن الجيش يقصف مدنا خالية من المدنيين بعد أن هجر المسلحون سكانها، ولأنها لا تقول إن هذا الجيش لم يدخل المدن إلا ليلاحق المسلحين فيها، وإنه لا يدك إلا تلك المباني المدنية التي حولوها إلى قواعد عسكرية لهم بعد أن أرغموا سكانها على الرحيل عنها وفجروا جدرانها لفتح ممرات لهم للتنقل بين أحيائها ودمروا أساساتها لحفر أنفاق يتنقلون عبرها.
ولأن "إسقاط النظام"، حتى لو كان ثمنه تدمير الدولة وحياة المدنيين فيها، كان في رأس اهتماماتهم وحماية المدنيين في آخرها - - مع أنه يتضح اليوم بعد حوالي تسعة عشر شهرا من انفجار الأزمة السورية أن حماية المدنيين لم تكن ضمن حساباتهم أصلا إلا بقدر ما كانت الاحتجات المدنية السلمية مفتاحهم الإعلامي للتسلل إلى داخل المناطق الآهلة بالمدنيين - - ولأن تطور الصراع أثبت بالدليل الملموس أن الجيش الوطني هو الحريص حقا على حماية المدنيين بينما كان المدنيون بالنسبة لهم مجرد أدوات جردوها من أي بعد إنساني لخدمة أهدافهم لا يتذكرون إنسانيتهم إلا لاستدرار العطف الغربي من أجل دعمهم، فإن بطء الجيش العربي السوري في إخراجهم من قواعدهم "المدنية" يصبح غنيا عن البيان.
ومن الواضح اليوم من هو المسؤول عن المأساة الانسانية للمدنيين السوريين، فالتضليل الإعلامي الذي استخدم منذ البداية أداة من أسلحة الحرب على سورية ربما نجح في البداية في خداع بعض الناس لبعض الوقت، لكنه لن ينجح بالتأكيد في تضليل كل الناس كل الوقت.