بقلم : د.خالد الحروب ... 29.10.2012
تفترض المرحلة الحالية والقادمة في الكثير من البلدان العربية، إن لم يكن كلها، حل "الإخوان المسلمين" بشكلها الذي عُرفت فيه على مدار العقود الماضية وانتقالها إلى حزب سياسي واضح الملامح (وليس إنشاء حزب تابع لها مع الإبقاء عليها كما هو في أكثر من حالة). ودفعاً لأي التباس ليس المقصود هنا الدعوة إلى التخلص من الإسلاميين، لأنه في هذا نزعة إقصائية غير ديمقراطية، أولاً، ولأنه غير ممكن عملياً حتى لو أراد خصومهم القيام بذلك، ثانياً... بل المقصود هو تغيير شكل اندماج الإسلاميين في التسييس الوطني، وانخراطهم فيه، والاندراج في الآليات والوسائل السياسية المتوفرة في الحقبة الديمقراطية، والتخلي عن الآليات والوسائل التي تبنّوها في حقبة ما قبل الديمقراطية.
هناك ثلاث ضرورات تبرر وتستدعي الدعوة إلى حل جماعة الإخوان المسلمين،هذه السطور تتناول جوانب الضرورة الوطنية التي تتطلب في حقبة "الربيع العربي" وما بعدها تخلي الإخوان المسلمين عن الصيغة الغائمة التي وسمت شكل حراكهم السياسي والثقافي خلال العقود الماضية، وفي مقالين لاحقين سوف أناول الضرورتين الأخريين.
في مرحلة الديموقراطية والانتخابات، يمثل الحزب السياسي الآلية الأساسية والوحدة التنظيمية للعمل السياسي، وهو الترجمة العملية والسياسية لأية أيديولوجيا تطرح نفسها على المجتمع كمنقذ ومخلص له من مشكلاته. الحزب السياسي هو الذي يعرض على الجمهور برنامجه السياسي والذي على أساسه يطمح لأن يقود المجتمع والبلاد، ومن خلاله يستطيع الجمهور أن يحكم على الأيديولوجيا أو البرنامج السياسي التي يتبناها الحزب. بقية الآليات والجمعيات وأشكال المجتمع المدني تعمل على تعزيز الحياة الديمقراطية والحد من تغول السلطة، والتأثير في الأحزاب، وتأييد قضايا محددة، وسوى ذلك، لكنها ليست هي الآليات التي يتم توسلها للوصول إلى السلطة.
في المرحلة الحالية، عربياً، يشكل "الإخوان" حزباً يشارك في العمل السياسي ثم يختبئون خلفه، ويتركون مسافة "آمنة" بينهم وبينه ليتبرأوا من أخطائه، ويتبنوا نجاحاته في الآن ذاته. هذا يعني التهرب من المحاسبة والمسؤولية عن الأخطاء التي هي سمة العمل السياسي والتعلم منها، وبالتالي محاولة البقاء في مربع "التطهر السياسي"، وهو ما يعكس توتر داخلي وعدم حسم في الخيارات. لكن الأهم من ذلك، من زاوية "الضرورة الوطنية"، هو استمرار تلك المنطقة الغامضة والرمادية بين الحزب والجماعة، حيث تضيع المسؤوليات ويصعب تطبيق المحاسبة ومعرفة نسبة الأخطاء إلى فاعليها ضمن سيرورة البناء الوطني.
المشكلة في الإبقاء على الشكل التقليدي لجماعة "الإخوان المسلمين" في وضع سياسي ديمقراطي مفتوح يسمح لها بالتحول إلى حزب سياسي، أنه يُبقي على الشكوك العميقة إزاء النيات الحقيقية للجماعة. المسوغ الوحيد الذي قد يمنح شرعية لبقاء "الجماعة" بعد إنشاء حزبها، هو أن تتحول وظائفها كلياً إلى أشكال أخرى لا علاقة لها بالسياسة، أي أن تصبح جمعية من جمعيات المجتمع المدني، تؤيد الحزب الذي أنشأته وتخضع له، لا أن يخضع لها. طالما ظلت علاقة الحزب بالجماعة (مثل "حزب العدالة والتنمية" في مصر و"جبهة العمل الإسلامي" في الأردن) علاقة تبعية، علاقة الابن بالأب، فإن تقدم ونجاح العملية السياسية يظل بطيئاً ومحفوفاً بالشكوك. ومن أهم الجوانب المقلقة والخطيرة في علاقة الحزب بالجماعة وانعكاسات ذلك على الواقع الوطني، والعلاقة مع بقية الطيف السياسي، يتمثل في السلطة الروحية والسياسية للمرشد العام للإخوان في مصر، أو المراقب العام للجماعة في كل بلد يكون لها فيه حزب، أو لرئيس الحركة (كما في تونس مثلاً، حيث سلطة الغنوشي مقابل سلطة الحكومة التي تسيطر عليها "النهضة"). في كل هذه الحالات ثمة ازدواجية في قيادة "التيار الإسلامي" المشارك في العملية السياسية بحيث لا تطمئن الأحزاب الأخرى إلى مدى عمق التوافقات التي تصل إليها مع الحزب الرسمي، خاصة مع حرص الجماعة والحزب على الإبقاء على "مسافة آمنة" بين الإثنين. أحد جوانب خطورة فكرة "المرشد العام" أو "الأب الروحي"، كما هي حالة بديع في مصر، أو الغنوشي في تونس، أو الترابي في السودان، تكمن في توفيرها لبيئة ينزلق فيها التسيس الإسلامي نحو النموذج الإيراني الذي يرقّي "آية الله" عظمى فوق الجميع في مرتبة محصّنة أو شبه محصنة ضد النقد السياسي بسبب اختلاطها واحتمائها بالديني.
الإبقاء على جماعة "الإخوان المسلمين" في خلفية "الحزب" الذي يمثلها يكبل هذا الأخير ويكبح إبداعاته، والأهم على مستوى "الضرورة الوطنية" أنه يحرم الأوطان والاجتماع السياسي فيها من ترسيخ وتكريس التوافقات والتنازلات التي تستقر عليها الأطراف والأحزاب ومن ضمن تلك التنازلات والبراجماتية التي يقدمها "الحزب الإسلامي" نفسه نتيجة احتكاكه بالواقع الوطني وبالمشكلات على الأرض. تظل "الجماعة" في هذه الحالة تشكل "خط رجعة" للحزب، وهذا لا يساعد مرة أخرى على تأسيس البنى الديمقراطية والبناء عليها، لأن الشكوك تظل عميقة، والتنازلات المقدمة من الإسلاميين يمكن التراجع عنها، أو حتى سحبها من قبل الجماعة الأم. والأسوأ من ذلك هو إنتاج خطابين إسلاميين في السياسة متوازيين، واحد ينطق به الحزب، وآخر تنطق به الجماعة. ولأن خطاب الحزب يكون أكثر تسيساً وبراجماتية خاصة إن وصل إلى الحكم، فإن ذلك سوف يُرى من قبل الجماعة على أنه تنازل يدمر صورة "الجماعة" مما يضطرها لتبني خطاب متشدد لتعويض خسارات الخطاب المعتدل للحزب. والشواهد على هذه المسألة أكثر من أن تُحصى، وتكفي الإشارة هنا إلى موقف المرشد العام في مصر من إسرائيل، وموقف الدولة المصرية التي يقودها حزب "الإخوان" من اتفاقية كامب ديفيد والعلاقة مع إسرائيل. وهذا كله ناتج عن تمسك الجماعة بالاشتغال في السياسة التي هي وظيفة الحزب، وتمسكها بأن تظل فوق الحزب وموجهته. معنى ذلك، وعلى مستوى "الضرورة الوطنية"، أن الخيوط التي تبقى تشد الحزب إلى جماعته الأم عبر السيطرة والتبعية والتردد إزاء اتخاذ مواقف ريادية أو توافقية على المستوى الوطني، تشل كتلة الوسط الوطني وتعيق تشكلها، وهو التشكل الذي يمثل ركيزة أي تسيس وطني عميق وناجح يؤسس لديمقراطيات راسخة.
على الإسلاميين في كل البلدان التي يمارسون فيها حرية تشكيل الأحزاب والمشاركة في الانتخابات، بل والفوز فيها، أن يمتلكوا الجرأة لإنهاء الازدواجية السياسية التي يمارسونها في أوطانهم، ويعملوا، إما على حل الجماعة الأم التي تقف خلف الحزب الذي يشكلونه، أو الواجهة السياسية التي يختبئون خلفها. وهذا يدمجهم بشكل تام في النسيج السياسي الوطني، ويطمئن الأطراف إزاء نواياهم، فضلاً عن أنه يطورهم ويعمق من تجربتهم، ويجعلهم يواجهون الواقع بشكل مباشر ويُنهي سيكولوجيا الهروب إلى الخلف عندما يواجهون معضلات بالغة الصعوبة، وحيث تبقى الفكرة المدمرة التي تقول "إننا نمر في مرحلة ظرفية" هي المسيطرة على التفكير السياسي الإسلامي، وتدمر معها كل جسور الثقة مع الآخرين الذين من حقهم أن يتساءلوا عن "المرحلة النهائية" التي تستولي على العقل السياسي الإسلامي. الحزب السياسي، حزب الإخوان المسلمين، هو الذي سوف يكشف للإسلاميين أن العالم يمر من مرحلة ظرفية إلى مرحلة ظرفية أخرى، وأنه ليس هناك "مرحلة نهائية" إلا في عقول الطوباويين، وأن المطلوب هو إدارة هذه المراحل الظرفية بأكبر قدر من النجاح، أي خدمة الناس، وبأقل قدر ممكن من الخسائر.