بقلم : د.فيصل القاسم ... 04.11.2012
تختلف الثورة السورية عن باقي ثورات الربيع العربي في تونس ومصر واليمن، فبينما رفضت الجيوش في تلك الدول النزول إلى الشوارع لسحق المتظاهرين والمحتجين بناء على أوامر القادة في تلك الدول، نزل الجيش السوري إلى الشوارع في الأيام الأولى من الثورة بدباباته وجنوده، ووضعت مدفعيته وكتائبه في حالة تأهب قصوى كما لو كان يستنفر لخوض حرب كبرى.على العكس من ذلك، لم يقبل الجيش التونسي أن يقوم بأية أعمال عدائية ضد الشعب، خاصة وأن الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي حاول استخدام سلاح الطيران ضد بعض المناطق، لكن قائد الجيش رفض تنفيذ الأوامر، لا بل ضغط على الرئيس كي يتنحى بدل الدخول في حرب مع الشعب. وفعلاً خرج الرئيس من البلاد خلال أسابيع لتنجح الثورة ضد نظامه حلال فترة قياسية.وفي مصر حاول الرئيس المخلوع حسني مبارك استخدام الجيش لإرهاب الثائرين على نظام حكمه، لكن بطريقة ناعمة جداً، فأوعز للجيش بالنزول إلى الشوارع، وتحديداً إلى ميدان التحرير حيث كان يحتشد المتظاهرون بالملايين. كما أرسل وحدات من الجيش إلى المنطقة المحيطة بالإذاعة والتلفزيون. وقد شوهد وزير الدفاع السابق طنطاوي وهو يجول بين الجنود ويصافح المارة. وقد حاول نظام مبارك أن يرفع من حدة المواجهة مع الشعب قليلاً من خلال إرسال طائرات حربية فوق ميدان التحرير، لعله بذلك يرهب الثوار. لكن حيلته لم تنجح. باختصار شديد، لقد كان استخدام الجيش من قبل مبارك لأهداف تكتيكية غير عسكرية، لأن الجيش في مصر لا يمكن توريطه ضد الشعب بأي حال من الأحوال كما أظهرت التجارب التاريخية. وقد قال أحد المعلقين المصريين إن "الجيش يستطيع أن يطلق الطلقة الأولى على الشعب، لكنه لا يضمن أين ستنطلق الطلقة الثانية"، أي أن الطلقة الثانية قد تذهب فوراً إلى رؤوس القادة في البلاد، على اعتبار أن الجيش المصري جيش وطني لا يمكن أن يلوث أيديه بدماء شعبه.
وحتى في اليمن، وبالرغم من أن الرئيس اليمني وعائلته تمسك بتلابيب المؤسسة العسكرية والأمنية، لم يلجأ الجيش إلى قمع الثورة عسكرياً إلا في مناسبات يتيمة، ناهيك عن أن بعض كبار الجنرالات انشقوا فوراً عن الجيش اليمني، وانضموا إلى الثورة.
أما في ليبيا، فقد قرر القذافي مواجهة شعبه بالحديد والنار منذ اللحظة الأولى للانتفاضة الشعبية، خاصة وأن الجيش الليبي كان أشبه بميليشيا خاصة في عهد القذافي أكثر منه جيشاً وطنياً. وقد لاحظنا كيف سلط كتائبه على الشعب، وكيف هدد بمحو مدينة بنغازي عن الخارطة عسكرياً، مما جعل العالم يتصدى لحماقاته العسكرية ويساعد الثوار في إسقاطه عسكرياً.
السيناريو الليبي تكرر في سوريا، فبدلاً من السير على خطا النموذجين المصري والتونسي، اختارت القيادة السورية الطريقة الليبية، وذلك بالتصدي للثورة الشعبية عسكرياً، ومنذ الشهر الأول، مع العلم أن الثورة السورية، على عكس الليبية، لم تلجأ إلى حمل السلاح إلا في الشهر السادس كما اعترف الرئيس السوري نفسه. أي أن القيادة السورية ارتأت سحق الانتفاضة بالحديد والنار منذ بدايتها رغم سلميتها. ولنفترض جدلاً أن من حق الدولة، أي دولة في العالم أن تتصدى لكل من يحمل السلاح في وجهها بالقوة، لكن الذي حصل في سوريا ليس له مثيل في التاريخ، بدليل أن الجيش السوري لم يتصد للمسلحين فقط، بل اتبع سياسة الأرض المحروقة بحق المسلحين والمدنيين على حد سواء، وهو لم يحدث أبداً في أي ثورة عبر التاريخ.
لنفترض جدلاً أن المسلحين الثائرين على النظام تمركزوا في بعض المدن والقرى السورية، فهل يعقل أن يتم تسوية المناطق التي يتمركزون فيها بالأرض فوق رؤوس المسلحين والعائلات التي تقطنها؟ هل يعقل تفريغ مناطق بأكملها من سكانها المدنيين كي يتسنى للجيش تدمير الأبنية فوق رؤوس المقاتلين المتمترسين داخلها؟ لاحظنا كيف تم تدمير ثالث أكبر مدينة سورية وهي حمص لمجرد أن الثوار تمركزوا في بعض أحيائها. ولاحظنا كيف تم تدمير مناطق كبيرة في إدلب وحلب ودرعا وريف دمشق. فقد شبه أحد الناشطين بعض أحياء ريف دمشق كداريا والتضامن وحرستا والقابون بمدينة غروزني الشيشانية التي سوتها القوات الروسية بالأرض، لا لشيء إلا لأن بضعة مسلحين قاتلوا الجيش السوري من داخلها. بعبارة أخرى، فإن الجيش السوري ضرب عرض الحائط بكل قوانين حرب المدن الصعبة، فمن المعروف أن كل مقاتل داخل المدن يحتاج إلى أكثر من مائة جندي كي يخرجه من داخل المدينة لصعوبة المهمة وسط أحياء مكتظة بالسكان المدنيين. لكن الجيش السوري، لم يفعل ذلك، بل قرر تدمير أي حي يدخله المقاتلون داخل المدن فوق المقاتلين والسكان المدنيين الذين إما قضوا نحبهم تحت القصف، أو اضطروا إلى الهروب من منازلهم والتحول إلى نازحين أو لاجئين. ولعل أكبر دليل على حرب الإبادة التي يخوضها النظام السوري ضد معارضيه أن هناك الآن في سوريا أكثر من خمسة ملايين نازح داخل البلاد بعد أن تم تدمير منازلهم بسبب دخول المقاتلين إلى مدنهم ومناطقهم. وقد وصل عدد البيوت المدمرة في طول البلاد وعرضها إلى ملايين البيوت حسب الناشطين، لأن النظام ،كما يرى الباحث العسكري الدكتور فايز دويري يلجأ إلى أساليب تدميرية تعود إلى الحرب العالمية الثانية وذلك باستخدام طرق بدائية كإسقاط البراميل المليئة بالمتفجرات فوق المدن بطريقة عشوائية. بعبارة أخرى، بينما تلجأ الدول الآن إلى الأسلحة الذكية التي تصيب أهدافها بدقة، يلجأ النظام السوري إلى استخدام أسلحة غبية جداً لا تفرق بين مدني وعسكري، ولا حتى بين مؤيد ومعارض، بدليل أن بعض الأحياء المؤيدة في بعض المدن السورية قد تم تدميره أيضاً. حتى الأنظمة الفاشية في أمريكا اللاتينية لم تفعل ما فعله النظام في سوريا كما يقول أحد الباحثين.
"في ستينات وبداية سبعينات القرن الماضي، يقول الباحث، "نشأت في أميركا اللاتينية ظاهرة "التوباماروس"، ثوار حرب عصابات المدن ضد الأنظمة الفاشية، وقد أدار هؤلاء حرب عصابات في المدن وليس في الريف، وذلك لتشويش حياة النظام الحاكم واستنزافه ولغرض الاحتماء في البيئة الفقيرة الحامية وللضغط على الطبقات المؤيدة للنظام، وقد كان في سلوك الثوار نوع من الاعتماد الضمني على أن النظام لا يقصف مدنه. وفعلاً لم تلجأ تلك الأنظمة إلى قصف المدن والقرى الآهلة بالسكان.
ويضيف الباحث:"لقد جاءت التجربة السورية بجديد في أنماط الأنظمة، يتجاوز الأنظمة الفاشية المعروفة حتى الآن، وهو نموذج النظام الذي يقصف مدنه بالطائرات. وذلك حتى من دون تكنولوجيا دقيقة، أي كقصف مدمر لأحياء بأكملها، تماماً كما تفعل الدول الاستعمارية وغيرها في الحروب حين تقصف مدناً تتحصن فيها حركات ثورية أو حركات مقاومة، أو حين تقصف دولة في حرب مدن العدو لإلحاق الهزيمة المادية والمعنوية بالدولة الأخرى. النظام السوري يقصف حالياً مدنه التي يوجد فيها ثوار، أو يقصف مدن العدو كأنه في حرب مع دولة أخرى. وفي الحالتين يقدم نموذجا جديداً"، كما يرى الباحث.
وقد شبه أحدهم تصرفات النظام السوري بحق البلاد والشعب بشخص دخلت فراشة إلى منزله، فقام صاحب المنزل بملاحقتها بمطرقة ضخمة، و راح يحاول ضربها يميناً وشمالاً، حتى إذا ما انتهى، كان منزله محطماً ! فقالوا له : يافلان.. ليش هيك دمرت بيتك؟ قال لهم: مو أنا السبب الفراشة السبب ! مين قلها تفوت على بيتي؟"
هل يمكن أن أطلق النار على عصفور واقف على رأس فيل، فلا أصيب العصفور، بل أقتل الفيل؟ هل يعقل أن أدمر البيت فوق رؤوس العائلة لمجرد أن مسلحاً دخل البيت؟