بقلم : د.خالد الحروب ... 19.11.2012
الأيديولوجيات الأممية التي تصدرتها الشيوعية لعقود طويلة من القرن العشرين، ثم ورثتها الإسلاموية الحركية على الأقل في منطقتنا، تعرض نفسها على الضد من منطق الدولة- الأمة، أي nation-state. وتفترض هذه الأيديولوجيات نهاية ما للتاريخ تعلن انتصارها على غيرها، وتوحيدها للعالم تحت رايتها. والدولة الحديثة ذات السيادة والجغرافيا المحددة تعتبر مجرد مرحلة عابرة وغير مستديمة، من وجهة نظر هذه الأيديولوجيات. وفي البدايات التأسيسية لأي نظرية أيديولوجية أممية تكون القناعات والمكونات المؤسسة صلبة وغير مساومة. ولكن سرعان ما يعمل الزمن والتجربة وصلابة فكرة الدولة الحديثة على تعرية تلك الأيديولوجيات وتثبت طوباويتها مقارنة بالواقع.
وفي المنطقة العربية في حقبة ما بعد "الربيع العربي" ليس أمام الإسلاموية الحركية إلا أن تتحول من أيديولوجيا كلية ما فوق دولتية، أي متكونة من جماعات عديدة في بلدان مختلفة تتبع نفس القيادة في مصر بشكل فعلي أو رمزي إلى شكل مختلف تماماً بحيث تصبح فيه كل جماعة في بلد من البلدان حزباً سياسياً مستقلاً لا علاقة تنظيمية أو هيكلية له بالبنية العابرة للحدود. وهناك عدة أسباب جوهرية، كانت دوماً متواجدة تستدعي هذا التحول وتتحدى الأيديولوجية الأممية ولكنها اليوم تتبلور بحدة أكثر في زمن وصلت فيه جماعات الإسلاميين إلى سدة الحكم، أو المشاركة فيه. والسبب الجذري والأهم الذي تتفرع عنه بقية الأسباب هو اصطدام فكرة "الجماعة العابرة للحدود الوطنية" مع فكرة السيادة الوطنية التي تجسدها الدول الحديثة القائمة على أساس الدولة- الأمة. فالدولة الوطنية الحديثة هي البنية القانونية والدستورية الناظمة للعمل السياسي، الذي يشتغل بدوره تحت سقفها ويهدف إلى تقويتها والدفاع عنها، ويقر بكونها بوصلة الولاء السياسي والناظم الأول والأهم في شكل الاجتماع السياسي وآلياته. وعندما تكون هذه الدولة الوطنية الحديثة ديمقراطية فإن أهم آليات الاجتماع السياسي تتمثل في الأحزاب التي تتنافس ديمقراطياً للوصول إلى الحكم، وفق القانون والدستور المرتبط عضوياً بالدولة الوطنية. وكل الولاءات التي هي أدنى من مستوى الولاء للدولة، بما فيها الولاء للقبيلة والولاء للطائفة الدينية، والولاء للإثنية، يجب أن تأتي في مرتبة ثانية بعد الولاء للدولة لأن كل فرد من الأفراد مُعرف بكونه مواطناً ذا حقوق وواجبات بسبب وجود هذه الدولة. وكل الولاءات التي هي فوق مستوى الولاء للدولة، بما فيها الولاء للأيديولوجيات العابرة للحدود أو الولاء لجماعة أو حزب ذي هدف وامتداد إقليمي، كل ذلك يجب أن يأتي في مرتبة ثانية وأن يتم إخضاعه للولاء للدولة. وهذا الافتراض النظري في تصويب الولاءات باتجاه الدولة لترسيخها وتكريسها لا يقوم في واقع الأمر بهذه السهولة وخاصة عندما تكون الدولة غير ديمقراطية وغير عادلة ومستبدة. وفي هذه الحالة، أي عندما تكون الدول باطشة، تصبح مصدراً للعداء وليس للولاء للأفراد، وهؤلاء بدورهم يهربون منها بحثاً عن مصادر حماية أخرى قد تكون في القبيلة والطائفة أو الجماعة العابرة للحدود. وفي حالة الدولة الباطشة تتشتت ولاءات سكانها وتصعب "بوصلتها" باتجاه "وطني موحد" قائم على أفكار المساواة القانونية والدستورية التي تضمن العدل والحرية والكرامة للمواطنين. وهذا ما كان وما زال عليه الوضع في الأغلبية الكاسحة من بلدان العالم العربي. وفي هكذا وضع تنشأ كل التشوهات السياسية الممكنة ومن ضمنها ميوعة الولاءات السياسية للدول والاستهزاء بها، وترسخ بنى حزبية وسياسية تكون ولاءاتها موجهة إلى مرجعيات وربما دول أخرى.
والتغير الكبير الذي أحدثه "الربيع العربي" في بعض الدول يتمثل في إدراج هذه الدول ومجتمعاتها وأحزابها في عملية انتقال قد تكون طويلة الأمد من مرحلة الدولة الباطشة إلى مرحلة الدولة الديمقراطية القانونية والدستورية. ولضمان حدوث هذا الانتقال الذي يحدث على مستوى الدولة لابد من سلسلة من "الانتقالات" والتغيرات الجذرية على مستويات أخرى، ومن ضمنها مستوى الآليات السياسية والحزبية. وبمعنى آخر، وفي ما يخص الأحزاب والجمعيات السياسية، يجب أن تتخلص هذه من الوسائل والمناهج التي كانت تتبعها في مرحلة البطش والاستبداد وخلال تطبيق استراتيجيات الهرب وتفادي جبروت السلطة الحاكمة. مثلًا، الجمعيات والجماعات التي كانت ترتكز على قواعد طائفية أو عشائرية أو دينية لتحقيق حماية لأفرادها من تغول الدولة يجب أن تعيد تشكيل نفسها، لتعمل على المساهمة في ترسيخ الشكل القانوني والمساواتي والدستوري للدولة الديمقراطية الجديدة. وينطبق الأمر نفسه على الأحزاب والجماعات التي كانت تتوسل آليات امتداد خارجي يمنحها بعداً حمائياً وأيديولوجياً، فهذه الأخرى يجب أن تعيد تشكيل نفسها لأن إبقاءها على تلك الآليات معناه إضعاف، لا ترسيخ، الشكل القانوني والدستوري الجديد الذي أنتجه "الربيع العربي".
والإبقاء على أية أيديولوجيا أممية عابرة للحدود في المنطقة العربية معناه الإبقاء على شكوك عميقة تحيط بطبيعة الولاء وجهته لكل من ينتمي إلى تلك الأيديولوجيا، وهي شكوك لا يمكن دحضها بسهولة. والانفتاح السياسي في المنطقة، وخاصة في دول "الربيع العربي"، يوفر إغواءً كبيراً، للقوى السياسية الدينية، كي تطلق من قمقم الأحلام والأوهام، طروحات تدميرية لا علاقة لها بواقع السياسة ولا تعمل على تكريس الشكل القانوني والدستوري والديمقراطي لدول الربيع.
والأمر المهم ذو العلاقة هنا هو مصير الجماعات الإسلامية في بقية الدول العربية الأخرى. ففي هذه الحالات تتفاقم الإشكالية فمن جهة لم تصل هذه الجماعات للحكم كما وصلت نظيراتها في البلدان الأخرى، ومن جهة ثانية تنظر بعين الولاء إلى الجماعة الأم، في مصر على سبيل المثال، التي وصلت إلى الحكم، على حساب الولاء "الوطني" الذي يشوبه الغموض الناتج عن الاستبداد وفقدان الحرية السياسية. وقد تتطور علاقة "استقواء" بحيث تأمل الجماعات الضعيفة بدعم "مصر الإخوانية" لها لتمكينها من الحكم. وكل ذلك يطور علاقات حزبية جماعاتية "إخوانية" هي فوق حدود "الدولة الوطنية" بما لا يكرس صيغة هذه الدولة في مرحلة اندراجها في الدمقرطة والدسترة والقوننة. ومعنى ذلك أن القفز الدائم بالولاء خارج حدود الدولة الوطنية معناه تحدي الدولة الوطنية حتى في صيغتها الديمقراطية. وفي ذات الوقت يثير مخاوف كبيرة في بقية الدول العربية ويعيق علاقاتها مع مصر الجديدة، أو الدول التي وصل فيها الإسلاميون للحكم بشكل عام. طبعاً من حق كل الأحزاب الدعوة والترويج ديمقراطياً واختيارياً لأي صيغة من صيغ التكامل والوحدة على مستوى العالم العربي، ولكن يجب ألا يكون ذلك فوقياً ومفروضاً بقوة السلطة، كما حدث خلال عقود مريرة من حكم البعثيين وأدعياء القومية العربية، وعلى كل دعوة فوق دولتيه أن تستفيد من تلك التجربة التي دفع العرب ثمنها غالياً وباهظاً جداً.