بقلم : د. خالد الحروب ... 26.03.2012
انطبعت سيرورة دولة الاستقلال العربية بسمات عدة بعضها بدا وكأنه تأبيديّاً لولا دخول المنطقة مرحلة الحراك العربي والانتفاضات التي أسقطت مع ما أسقطته من أنظمة، العديد من السمات والمقولات التي سادت لعقود طويلة. وأهم تلك السمات كان الاستبداد الذي أسس للنظم السياسية والاجتماعية التي قام عليها الاجتماع السياسي العربي، والتي ترافقت معها في عدد مهم من الدول العربية السمة الريعية للدولة -أو ما يُعرف بالدولة الريعية. وهذه الدولة التي تقف من ناحية موضوعية وعلمية على الضد من الدولة الإنتاجية لا تتأسس إلا على أرضية استبدادية. الاقتصاد الريعي الذي يشكل العمود الفقري لهذه الدولة يقوم على سيطرة نخبة حاكمة على موارد الدولة والتحكم فيها. وأحد مؤشرات التغيير الحقيقي الذي قد تنجلي عنه حقبة الحراك العربي هو انفتاح المجال أمام القطع مع هذا الشكل من الدولة، وإعادة تأسيس نمط العلاقة السياسي والاجتماعي في الدولة العربية ليندرج في سياق بناء الدولة الإنتاجية، التي هي وحدها من يضمن تنمية دائمة وراسخة.
وفي هذا السياق يقدم الباحث عمر الرزاز أطروحة بالغة الأهمية تأمل في التقاط بدايات التغيير العربي وربطها في إطار فكرة صوغ عقد اجتماعي عربي جديد ينقل العرب من الدولة الريعية والاقتصاد الريعي إلى الدولة الإنتاجية والاقتصاد الإنتاجي، اللذين لا يقومان إلا على أرضية الحرية وانقضاء الاستبداد وهو ما تتيحه موجة التغيير الأخيرة، ولو على المدى المتوسط والبعيد. يلحظ الرزاز وبعمق أن الممارسة الريعية القائمة على علاقة رأسية بين النخبة المتحكمة بالثروة والأفراد التابعين تتطور على مدار عقود إلى منظومة متكاملة لا تعمل إلا على تأبيد علاقات اتكالية وتواكلية مرضية تقضي عمليّاً على طاقات الإنتاج والمنافسة والإبداع الفردي والجماعي، وبالتالي تُحبط أي أمل في الاندراج ضمن تنمية حقيقية وراسخة. ومن هنا فإن الرزاز يجادل بأن التحول الديمقراطي في العالم العربي وإن كان شرطاً تأسيسيّاً وضروريّاً لمستقبل أفضل إلا أنه غير كاف لضمان ذلك المستقبل، إذ يمكن أن يتطور بشكل شائه من الديمقراطية تتواصل في كنفه المنظومة الريعية. وعلى ذلك فإن معيار التغير الجذري يكمن، برأي الرزاز، في بداية إنهاء تلك المنظومة برمتها.
وفي مناخ للدولة الريعية والاقتصاد الريعي تنشأ ثقافات ريعية أخرى على مستويات عديدة (أفقية بين الناس) تتقولب فيها ومن خلالها علاقات المجموعات والأفراد، حتى لو كانت بعيدة ظاهريّاً عن الاتصال المباشر مع السلطة. في الدولة الريعية تغيب الضوابط المباشرة والصارمة عن آليات إنفاق المال العام، ويتمتع الحكم بالحرية المطلقة في الثروات، كما أن مصارف الإنفاق خارج الموازنات المعلنة تكون سلوكاً عاديّاً، ويُضاف إلى ذلك الاستنزاف المتواصل للموارد(الطبيعية) على حساب الأجيال القادمة. كما أن السمة الريعية للدولة ليست محصورة في الدول الغنية، فقد تكون الدولة فقيرة الموارد لكن النخبة الحاكمة فيها تفرض نمطاً ريعيّاً في الاقتصاد يكون التوأم لنمط الاستبداد السياسي. وفي المقابل قد تكون الدولة غنية الموارد لكن ليست بالضرورة ريعية الاقتصاد.
ولالتقاط اللحظة التاريخية ولمأسسة سيرورة التغيير العربي يطرح الرزاز سبعة مكونات أو اشتراطات لما يسميه بأنه "عقد اجتماعي عربي جديد" يرعى ويضمن الانتقال من دولة الريع إلى دولة الإنتاج. ويؤكد أن الاشتراطات التي يناقشها ليست حصرية وإنما تستهدف فتح النقاش والعصف الذهني وهي مفتوحة للإضافة والحذف. وأهمية الأطروحة التي يقدمها الرزاز، وساهم بها في "المؤتمر السنوي الأول للعلوم الاجتماعية والإنسانية" للمركز العربي لأبحاث ودراسة السياسات في الدوحة (24-26 آذار) تكمن في جانبين، الأول تماسكها العلمي والمنهجي وقوتها الإمبريقية، والثاني براغماتيتها لجهة أنها تمنهج النقاش حول نتائج واحتمالات وسيناريوهات ما بعد الحراك العربي، وتبعده عن الانطباعات والتمنيات وأحياناً كثيرة المقولات الاطلاقية. فهنا نمسك بمقترح واضح يتصف بشمولية النظرة حيث يتكامل التغير السياسي والتخلص من الاستبداد مع استهداف تغير جذري في البنى الاجتماعية والاقتصادية ووفق رؤية متكاملة. والاشتراطات السبعة التي يوردها الرزاز تتضمن ما يلي: الأول، الانتقال من دولة الاستبداد إلى الديمقراطية وهو الشرط المؤسس للانتقال المأمول. والثاني، الانتقال من سلطة الريع إلى حوكمة شفافة وحقيقية يخضع من خلالها الحكم إلى سلطات محاسبية ورقابية. والثالث، الانتقال من الاقتصاد الريعي إلى الاقتصاد الإنتاجي. والرابع انتقال الفرد من تلقي الهبات إلى المساهمة في الإنتاج. والخامس إطلاق عملية موازية في التعليم والثقافة تقضي على الثقافة الريعية وتكون تنويرية. والسادس، الانتقال من محاصصة الريع إلى توزيع الدخل والحماية الاجتماعية. والسابع، الانتقال من تشرذم سياسي وسيادي عربي إلى تكتل وتكامل سيادي عربي.
وكل من المكونات السبعة المذكورة يمثل أجندة بحث ونقاش بحد ذاته ويندرج تحته عناوين فرعية وسجالات مختلفة، ومن هنا أهمية هذه المغامرة الفكرية التي يطرحها الرزاز. وفي ذات الوقت يمكن التفكير بتعديل بعض هذه المكونات قياساً إلى أهميتها أو تراتبيتها، وكذا الإضافة إليها. فيمكن التفكير مثلاً في مكونات إضافية تتعلق باشتراط انتقال المجتمع من حالة القطيع المرافقة للثقافة الريعية إلى حالة المجتمع المدني الذي يعني تمكين الأفراد والمجموعات والشرائح المختلفة، وتسليحهم بالمسؤولية الجماعية وآليات رقابة إضافية على السلطة. وكذا مكون اشتراط السيادة على القرار الوطني واستقلاله عن التبعية للخارج، وتطوير العلاقات مع الخارج على أسس ندية.
يختم الرزاز ورقته العميقة باقتباس من ابن خلدون حول العمران والمجتمع والاقتصاد يعيد صوغه بلغة العصر وبطريقة حديثة جميلة. يقول ابن خلدون: "المُلك بالجُند والجُند بالمال والمال بالخراج والخراج بالعمارة والعمارة بالعدل". ويصوغ الرزاز هذه المقولة كالآتي: أن مناعة الدولة تتأتى من قدرتها على حماية كيانها ومصالحها، وحماية كيانها ومصالحها تتأتى من قواها الذاتية، وقواها الذاتية تتأتى من القاعدة الضريبية، والقاعدة الضريبية تتأتى من قوتها الاقتصادية، وقوتها الاقتصادية تتأتى من دولة القانون والمؤسسات والعدالة الاجتماعية.