بقلم : د.خالد الحروب ... 02.04.2012
الديمقراطية كغيرها من المفاهيم السياسية الحديثة تفتقد إلى تعريف محكم أو شكل قاطع في التطبيق والممارسة العملية، وتمتاز بتعدد أشكالها واتخاذها أنماطاً وصوراً متعددة بحسب السياق السياسي والاجتماعي والسيرورة التاريخية للمجموعة البشرية التي تتبنى تطبيقها. بيد أن الجوهر المؤسس للديمقراطية وأيّاً كانت تمثلاتها النهائية على الأرض يبقى واحداً ويمكن إجماله بـ"الإدارة السلمية للصراعات والتنافسات التي ترافق أي اجتماع بشري، وأحد أهم تطبيقاته السياسية هو التداول على السلطة بطريقة سلمية للتعبير عن رأي الأغلبية". وهذا يعني أن الفهم المدخلي والمُبسط للديمقراطية يمكن أن يتركز على كونها مجرد "آلية" سياسية تفصل بين المختلفين سياسيّاً وإيديولوجيّاً على قاعدة ترجمة توجهات الغالبية ومنحها ميزة الحكم والإمساك بالسلطة لفترة زمنية محددة.
تطورت الديمقراطية في تاريخ البشر والأفكار السياسية لتحاول الإجابة عن سؤالين: الأول، كيف يمكن التعبير عن رأي الغالبية وترجمته في الحكم والسياسة، والثاني، ما هو الشكل الأفضل لإدارة الصراعات السياسية بين المختلفين مصلحيّاً وسياسيّاً وعقائديّاً من دون إراقة دماء وحروب أهلية؟ هذان السؤالان يعكسان في ما يعكسانه نزعة طوباوية وأخرى واقعية. النزعة الطوباوية تتمثل في إزاحة استبداد أفراد محدودين بالمجموع العام والغالبية وفرض إرادة نخبة قليلة العدد على الغالبية الأكثر عدداً. وتاريخ البشرية انتمى في شطره الأعرض إلى نزعة الاستبداد، حيث انتهكت توجهات الغالبيات من البشر، وتم إخضاعها للسلطات الديكتاتورية للإمبراطوريات والدول الدينية وغير الدينية. وفي حال تطورت مجموعة سياسية أو معارضة للحكم لها مطالب متباينة فإن "الآلية" الوحيدة للصراع بينها وبين النخبة الحاكمة هي العنف، مترجماً إلى ثورة مسلحة، أو حرب أهلية أو خارجية، تحسم نتيجتها من يؤول إليه الحكم. والعنف إذن كان هو الآلية التي تحسم الصراعات السياسية وبحسب نتيجته تتحدد من تكون له "الشوكة والغلبة" وبالتالي السلطة. وقد انطبقت هذه السيرورة على معظم تواريخ العالم في شرقه وغربه إلى أن بدأت أرضية الاستبداد تهتز بفعل طرقات فكر الأنوار ومفاهيم السياسة الحديثة بما فيها المواطنة والديمقراطية والحريات السياسية.
أما النزعة الواقعية التي جاءت بها الديمقراطية فتمثلت في إقرارها بأن الصراعات والتنافسات بين البشر مكون أساسي ومستديم في المجتمعات وأن أي محاولة لإنهاء تلك الصراعات وفرض رؤية واحدة تعمل على "دمج" الأفراد وقولبتهم في شكل واحد بحيث تنتفي خلافاتهم السياسية والإيديولوجية والمصلحية لن تقود إلا إلى عكس ما تهدف إليه، وهو المزيد من الخلافات. وقد أشر تاريخ البشر إلى أن الرغبات والمشاريع غير الواقعية لكثير من الزعماء أو المشاريع الإيديولوجية أو العقائد التي أرادت أن تقضي على الخلافات والصراعات بالقوة والعنف والأدلجة انتهت إلى مشاريع فاشية تتنوع في الدرجة من الديكتاتورية التقليدية وصولًا إلى الهتلرية والنازية وتبني الإبادة للقضاء على الآخر المختلف.
إن الاعتراف بالاختلاف والصراعات في كل مجتمع والتنافس بين جماعات المصالح السياسية وغيرها هو أحد الأركان المتينة للنظام الديمقراطي، الذي يقر بالحقائق ولا يدعي عدم وجودها. ولأن هذه الاختلافات والصراعات تبقى في أي تجمع بشري فإن الواقعية تفترض التعامل معها واجتراح طريقة فعالة تحاول التخفيف من غلوائها وبناء فضاء صحي لها كي تتصارع سلميّاً وتتنافس من دون دماء. وعدم الاعتراف بتلك الخلافات الكامنة وما يتولد عنها من صراعات يعني كبت تلك الخلافات وحشرها تحت السطح للحفاظ على الادعاء السلطوي والديكتاتوري.
وخلاصة ذلك أن الديمقراطية تعمل في واقع الأمر على إدارة الصراعات بل والكراهيات أيضاً بين مجموعات متنافسة داخل المجتمع الواحد، وعبقريتها تكمن في أن مناخ الحرية الذي تخلقه لتفريغ تلك التنافسات والكراهيات يعمل في المدى الطويل على عقلنتها وكبح جماحها ودفعها نحو الوسط. والكراهيات المحتدة تزداد رسوخاً وحِدة عندما يتم قمعها ودفعها تحت السطح والتظاهر بعدم وجودها وعدم وجود أطراف ومجموعات ممثلة لها. ولكن عندما تتعرض تلك النزعات المتطرفة سواء في حدة طروحاتها أو في كراهياتها وتنكشف أمام المجموع العريض من الناس، فإنها تخسر طاقة جذبها الأولية من ناحية، ثم لا تجد بداً من الاندراج في مسارات أكثر اعتدالاً كي توسع دائرة المستجيبين لها. وعندما تتنافس الجماعات والأحزاب المختلفة في مناخ حرية صحي تتيحه الديمقراطية فإن عينها تكون مركزة على الدوام على المجموع العريض، الذي أصبح يمتلك السيادة والقرار الأهم في التوجه العام والسياسة للحكم والسلطة.
إن تعريف الديمقراطية ومقاربتها من منظور واقعي وعملياتي بحت وبكونها "آلية" فحسب وليست إيديولوجيا في حد ذاتها، أو عقيدة سياسية تتنافس مع العقائد السياسية الأخرى، لا يقفل نقاشاً واسعاً وسجالاً عميقاً ومحتداً حول هذه المسألة التأسيسية -أي أن السؤال يبقى مطروحاً إزاء الحيادية الإيديولوجية للديمقراطية وفي ما إن كانت حدود اشتغالها وتعريفها أيضاً تتوقف عند إدراكها كآلية لحسم الصراعات السياسية والإيديولوجية بطريقة سلمية وحسب. وهنا يتسع نطاق الإجابة ويتخذ طيفاً واسعاً، إذ ثمة من يصر على حيادية الديمقراطية وخلوها من أية إيديولوجيّا، وهناك من يراها مثقلة بحمولات إيديولوجية غربية بما يحول بينها وبين التطبيق في بيئات أخرى. ويبدو أن الديمقراطية تقع في منطقة وسطى في طيف النقاش ذاك. فمن ناحية النشوء والتطور لا يمكن إغفال حقيقة المنشأ الغربي للديمقراطية وما عناه ذلك من اشتراطات واستبطانات هي التي ميزت الديمقراطية ومنحتها المعنى الخاص بها (وأهم ذلك تأسسها على مفاهيم المواطنة، والمساواة، والحرية، وعكس إرادة المجموع العام). ومن ناحية ثانية ونظراً لمرونة المفهوم وسيرورته التاريخية بكونه شكلاً من أشكال التسيس التاريخي والبشري الذي يستمر قيد الإنجاز والتطور، فقد تم تطبيقه في بيئات غير غربية عديدة، تواءمت معه، وتواءم معها بهذه الدرجة أو تلك، محرراً الديمقراطية من لحظة تأسيسها ومانحاً إياها كوسموبوليتانية تؤهلها للتطبيق في أي مكان وضمن أي ثقافة.