بقلم : رشاد أبوشاور ... 08.02.2009
ستتداعى إلى ذاكرة كثيرين، كتّابا، وقرّاء متابعين، مسيرة تلك المجلّة التي زوّدت قرّاءها بدراسات وكتابات ومقالات وأبحاث جادة حول القضيّة الفلسطينيّة، ولن يغيب أبدا عن الذاكرة مؤسس مركز الأبحاث، وتلك المجلّة، الدكتور المفكّر أنيس صايغ، الذي كرّمه في مقدمة المكرّمين ملتقى حق العودة العربي والدولي الذي انعقد في دمشق يومي 23 و24 تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي.
هذه المقالة ليست مسخّرةً لتقريظ تلك المجلّة التي طويت صفحتها، ومعها مركز الأبحاث، واستغني معهما عن جهود وخبرات وقدرات الدكتور أنيس صايغ، ومن نبغوا من تلاميذه الذين تخرّجوا من مدرسة مركز الأبحاث.
نحن حاليّا لسنا في حقبة الدراسات، والجدل الجدّي المثمر، والحوار الهادف إلى مراكمة مزيد من المعرفة حول قضيتنا الفلسطينيّة، وخفايا أدوار الأطراف العربيّة، والغربيّة، والصهيونيّة، السياسيّة، والديبلوماسيّة، والعسكريّة، والتي أدّت في النهاية إلى نكبة فلسطين، وشرّدت الألوف من أهلها بعيدا عنها، أو غربتهم في ما نجا منها من الاحتلال (الضفّة الفلسطينيّة، وقطاع غزّة).
الحال الفلسطيني الراهن ذو شجون، وأكثر من الشجون، فهو مربك، ومحزن، ومخز، ومخسر...
ولأنه غير خاف، فلا يمكن التهرّب من (فضائحيته)، لأنه ينقل على الفضائيّات عربيّة وأجنبيّةً، يضاف إليها فضائيتان تتبعان لحكومتي (رام الله) و(غزّة) هما (فلسطين) و(الأقصى)، واللتان تتبادلان ردحا لا سابق له فلسطينيّا.
تصاعدت وتيرة تبادل الاتهامات، والتنصّل من المسؤوليّة، وأساليب استعداء الفلسطينيين، واستدراج الجمهور العربي، وحتّى غير العربي، للانحياز لوجهة نظر متعصّبة، واستثمار تفاقم سوء الأحوال في قطاع غزّة، من جوع، وعتمة لانقطاع الكهرباء، وفقدان وسائل التدفئة، والحاجة للأدوية...
إلى كّل ما تقدّم، دخلت (معركة) حجّاج غزّة ورام الله، الناجمة عن حالة الانفصال بين (حكومتين) و(سلطتين) متنافستين، متصارعتين مخسّرتين.
السلطات السعوديّة المختصّة أرسلت التأشيرات إلى الحجّاج الذين رشّحتهم (السلطة) في رام الله، لأنها تعترف بشرعية تلك السلطة.
حجّاج غزّة الذين رفعت أسماءهم سلطة الحكومة (المقالة) لن يتمكنوا من الحج لأنهم بدون تأشيرات...
حكومة غزّة الحمساويّة لن تسمح بعبور حجّاج رام الله إلى معبر رفح إلاّ إذا سُمح لحجّاجها بالسفر إلى الديار المقدسة!
على فضائيّة الأقصى تُبث مشاهد لحجّاج غزّة وهم يرفعون صور الملك السعودي عبد الله، ورئيس مصر مبارك، مع دموع، ومناشدات، وهتافات، وتكبيرات...
يوم الأحد 30 تشرين الأوّل (اكتوبر) الماضي، في مؤتمر صحفي لشرح الأزمة، أعلن وزير أوقاف (غزّة) بأن العلاقة مع (الشقيقة) السعوديّة هي استراتيجيّة ..أين المشكلة إذا، ما دامت العلاقة استراتيجيّة!
لكن السلطات السعوديّة ورغم علاقاتها القديمة بحركة الاخوان المسلمين لا تأبه بالدموع، والمناشدات، والتغنّي بالعلاقات الاستراتيجيّة ـ وما جمع الطرفين معا ضد وحدة مصر وسوريّة وجمال عبد الناصر ـ وبالشعارات التي تبثّها فضائيّة الأقصى، والتي تكيل الثناء والمديح للملك عبد الله، وعظمة مواقف المملكة، فالسياسة شيء و..العواطف شيء آخر!
نحن حقّا أمام (لعبة) فيها انحياز، وألاعيب إعلاميّة، وعبث بالوطن، وبالدين، وبقدسيّة فريضة الحج، والطرفان (الفلسطينيّان) يتشاطران، ويحولان كّل شيء إلى نصب فخاخ، ومكائد، ويستعديان الأطراف العربيّة على بعضهما ...
في هذه الأثناء يجوع شعبنا، وينام أطفالنا في العتمة، ولا تجد نسوة فلسطين غازا لطهي (الماء بالحصى)، أو بقايا عدس بالماء الساخن، إن توفّر العدس، والماء النظيف، و..ما يطهى عليه من حطب، وعلب كرتون!
مع تصاعد الردح بين سلطتين فاقدتين لأبسط مقومات (السيادة) يواصل الاحتلال مصادرة دونمات أخرى ممّا تبقى من أرض، ويقتلع مزيدا من أشجار الزيتون، كما يحصل حاليّا لقرية (عزّون) القريبة من مدينة (قلقيلية)، حيث ستنشئ سلطات الاحتلال جدارا بطول 7 كيلومترات لحماية طرق المستوطنين، وهو ما يحتّم الاستحواذ على أراض تعود للقرية المنكوبة، واقتلاع مئات أشجار الزيتون!
في الخليل يواصل ـ لم يتوقفوا منذ هيمنوا على قلب المدينة، ومنحوا شرعيّة البقاء بذلك الاتفاق الجريمة ـ المستوطنون اعتداءاتهم على منازل وسيّارات أهالي الخليل، رغم إرسال الـ500 عنصر (أمن وطني) لبسط الأمن في المدينة..أي أمن، أليس الأمن حماية لحقوق المواطن، وسيادة الوطن؟!
حرب الكيان الصهيوني على أرضنا وشعبنا لا تتوقّف، وتحارب الطرفين المتصارعين على السلطة يتصاعد، ولا رادع لهما، بل ثمة تشجيع، وصب للنار على الزيت تأجيجا للخلافات، وتنصلا من المسؤوليّة.
أتذكرون اجتماع وزراء الخارجيّة العرب الذين قرروا فيه كسر الحصار على الفلسطينيين، بعد مذبحة شاطئ غزّة؟!
القرارات العربيّة الرسميّة لها كالمعتاد سلّة المهملات...
بعد الإحراج الذي سببه المتعاطفون الأوروبيّون، ومع تشديد الحصار، ها هي دول عربيّة تقرر إرسال سفن تحمل مساعدات للمحاصرين!
السفينة الليبيّة تصدّت لها الزوارق الحربيّة الصهيونيّة، وأعيدت إلى العريش، ومن بعد ...
ليبيا عانت الحصار، وهو والحق يقال كان حصارا عربيّا، ومن نفس الجهة التي تحاصر غزّة بشكل رئيس: الدولة المصريّة!
أن يتحرّك ناشطون أوروبيّون لمّد غزّة ببعض المساعدات، وبالتعاطف، فهذا مفهوم، وشكرا لهم ...
ولكن أن تسيّر دول عربيّة سفنا تحمل مساعدات فهذا لا يكسر الحصار المضروب على مليون ونصف المليون فلسطيني، فحريّة السفر، والكهرباء، والغاز، لا يمكن شحنها في الزوارق والسفن، وما هذا بالموقف القومي العربي الأخوي المنشود!
إرسال بعض الطحين والدواء إلى غزّة لا يوقف الاستيطان، ولا يعيد الحياة لأشجار الزيتون، ولا يحقّق دولة مستقلّة وعاصمتها القدس للفلسطينيين!
شعب فلسطين بمعاناته الرهيبة يضع دول وحكّام العرب أمام مسؤولياتهم وهم يتهرّبون، أو يذرّون طحين السفن في العيون! أهذا كّل ما تستطيعون تقديمه لفلسطين وشعبها وقدسها؟!
المؤلم جدّا، أن الطرفين المتصارعين يقدمّان المبررات لتخاذل وتقاعس العرب الرسميين.
بعد أيّام يأتي عيد الأضحى، حيث ستذبح الخراف في مكّة، وعلى ارض فلسطين ستتواصل عملية ذبح شعب لا شبيه لصلابته، وصبره، وكبريائه، ومقاومته ...
لن يجد أطفالنا هناك ملابس جديدة، ولا حلوى، ولا خبزا ساخنا، ولا مراجيح بسيطة كالتي لعبنا عليها نحن جيل المخيمات والطين والخيام بعد نكبة 1948...
ستلهج عشرات ألوف الحناجر بنداء: لبيك اللهم لبيك...
هؤلاء جميعا، كما ملايين الحجاج من قبلهم لن يقدّسوا حجتهم لأن القدس أسيرة، ولأنها تصادر، ولأن صخرتها وأقصاها على وشك الانهيار بسبب الحفريّات ...
سيأتي عيد الأضحى وألوف الأسرى في المعتقلات الصهيونيّة النازيّة، رغم مسيرة السلام الكاذبة ...
سيفرج أولمرت عن 250 أسيرا، بينما سيبقى مع المعاناة، في المعتقلات، أكثر من 11 ألف أسير وأسيرة، بعضهن معهن أطفال ولدوا وراء القضبان، والجميع رهائن بيد حكومات العدو المتعاقبة!
يا للمسخرة!
شؤوننا الفلسطينيّة لم تعد شؤوننا، ومن يتصدرون المشهد هبطوا بقضيتنا من حالة التراجيديا إلى مسرح العبث واللامعقول، بنص رديء، وحوار ركيك سفيه، وبتمثيل مبتذل منفّر...