بقلم : سهيل كيوان ... 12.04.2012
قبل يومين احتججت من خلال حائطي'الفيسبوكي'متسائلا...ما الذي حدث لرغيف الخبز العربي، لماذا جعلوا له وجهًا ناضجًا مقمّرًا ووجهًا آخر من عجين! ولم لا ينضجونه على الوجهين، ولماذا فقد قدرته على فتح شهيتنا كما كان في يوم من الأيام،حيث كان عبقه عطرًا نتنشقه من مسافات بعيدة فيسيل لعابنا شوقًا إليه!
في البداية تصّورت بل حاولت إقناع نفسي أنّ هناك حاجزًا نفسيًا بيني وبين الأفران الحديثة وطريقة تصنيعها للخبز الذي فقد براءته الأولى تمامًا، ولكن فيما بعد اتضح أنها ليست مجرّد حالة نفسية زرعتها في نفسي المرحومة والدتي التي لم يكن يعجبها العجب،إذ كان خبزها قد وصل إلى درجة الكمال في الحجم والاستدارة واللون والنضج والنكهة والرائحة ودرجة فتح الشهية والقدرة على الانشطار والامتلاء بالأدم بدون أي تشقق أو تنفيسة، المشكلة واقعية وليست حالة نفسية وهي ليست مع الرغيف بل مع أصحاب الأفران الذين أوصلوه إلى هذه الحالة التعيسة بعدما صنّفه عباقرة العنصرية في إسرائيل في يوم من الأيام بأنه نوع من الكعك والكماليات كي يبرّروا عدم دعم الحكومة للطحين الذي كان يُصنع منه!
هل انتهى زمن'العروس'بلبنة أو بربّ البندورة المجففة،أو تغميسه ساخنًا بالزيت مع حبة بندورة وزيتون، أو تغميسه بالأدم دونما حاجة إلى ملعقة أو شوكة،الغريب أن العدوان على رغيف الخبز العربي انتشر في كل ارجاء فلسطين،من الجليل وعكا شمالا حتى الخليل جنوبًا مرورًا بنابلس وجنين، والحديث عمّا يقدم في المطاعم وفي معظم الأفران، وليس ما يصنع في البيوت لدى القرويين،وهو ليس عدوانا صهيونيًا ولا إمبرياليا بل هو عدوان عربي فلسطيني صافٍ لا غبار عليه،الرغيف الذي كان يفتح شهية العرب والأجانب،بل وكان اليهود يتتبعون رائحته خصوصًا في مثل هذه الأيام من عيد الفصح العبري حيث يُحرمون من تناول أو صنع كل ما يدخل فيه الخمير،فيأتون لشرائه من الأفران العربية،أو من أطفال العرب الواقفين على قارعات الطرق عارضيه للبيع، تحوّل الرغيف عندي إلى مشكلة شخصية،نعم لكل شيء حدود،ممكن أن أتساهل في نوعية القميص أو الحذاء والجوارب التي أرتديها،وممكن أن أسمح للحلاق بأن يخطئ في تصفيف شعر رأسي أو في ضربة موسى على ذقني،وممكن أن أسمح للباعة في الأسواق بخداعي مرة أخرى وبيعي عطرًا مزيفًا بثمن العطر الأصلي،ولكن الرغيف العربي لا....قررت أن لا أتنازل عن حقي بتناول رغيف خبز عربي ناضج ومن الوجهين،وعندما أقول قررت فهذا يعني متابعة القضية،هكذا تحوّلت وجبات الفطور والغداء والعشاء إلى محاضرات عن الرغيف وكيف تدهور إلى هذه الحالة،عن جشع أو قلة حيلة أصحاب الأفران الذين لا ينضجونه بهدف أن يبقى وزنه أثقل كما يبدو إذا ما تمت مراقبته من قبل وزارة الصناعة والتجارة مع أن هذا مستبعد،والأرجح أنهم يوفرون في كمية غاز الطهي الذي يشغّلون به أفرانهم،ويخبزون طرحتين من الأرغفة بكمية غاز لا تكفي إلا لطرحة واحدة، وهكذا يبقى أحد وجهي الرغيف نيئًا، ولكن ما ذنبي أنا وشهيتي ومعدتي!
الحديث هنا ليس عن الكافيار ولا السّلمون ولا عن الأصداف البحرية ولا عن أي طعام فاخر آخر،أتحدث ببساطة عن الخبز.
عوّدتني زوجتي بعد عجز والدتي أن تعجن وتخبز على الفرن الذي كانت تشغله بواسطة قرامي الحطب وفيما بعد على الغاز،ولكن في الآونة الأخيرة صارت تتكاسل بسبب عملها ومشاغلها الكثيرة،تؤجل العجين والخبز لأيام وأحيانا لأسابيع أو أكثر،صارت تستسهل اقتناء الخبز من الأفران وحين أحتج على شكل الرغيف وطعمه ولونه تقول لي'شو نعمل كل الناس هيك'.
كان هناك عدد من التعليقات الظريفة على مقولتي في (الفيسبوك) حول رغيف الخبز،أحد الأصدقاء كتب 'حتى رغيف الخبز لم يسلم من بطشهم' بإشارة واضحة إلى الإسرائيليين،وهذا غير صحيح، فما حدث لرغيفنا من صنع أيدينا،وهناك أمور كثيرة نصنعها بأيدينا ثم نعلقها على شماعة الاحتلال والغزو الأجنبي،وقالت مُعلّقة أخرى'هل انتهت جميع قضايانا ولم يبق لنا سوى قضية رغيف الخبز'! أعتبر هذا التعليق مزاودة لا مكان لها،بل إن الحفاظ على الرغيف العربي وجماليته هو مطلب وطني، مثلما نطالب بالتمسك باللغة العربية والأرض وتراثنا العمراني والغذائي،ولكن ما يهمني أكثر هو أنني مواطن أريد رغيفًا نظيفًا ومشهيًا فهل هذا كثير!وكتب آخر'حتى الخبز صار ينافق وله وجهان'!بينما كتب آخرون..'لقد ولّت تلك الأيام الجميلة'!وكأن إنضاج رغيف الخبز صار معجزة لم يعد بالإمكان تحقيقها والتفرغ لها إلا بعد حل قضايانا الكبرى.
يبدو لي وللأسف أن الجيل الصاعد اعتاد الأمر وبات يظن أن هذه هي الحالة الطبيعية للرغيف ،ويستغربون عندما أدعوهم بغضب إلى عدم السكوت ومقاطعة الأفران التي يتصرف أصحابها بهذا الاستهتار بمادة أساسية كهذه في حياتنا وصحتنا وتراثنا،بل وأطالبهم بأن يغيّروا الفرن الذي يشترون منه الخبز حتى يصلح أمره فليس في هذا مجاملة،وأن يضغطوا لعل أصحاب الأفران يغيرون سياستهم التدميرية تجاه رغيفنا المحبوب.
وهكذا من الصغير إلى الكبير ومن الضيق إلى الأوسع،كثيرة هي الأشياء الجميلة التي تم الاعتداء عليها في حياتنا،الفرح والحب والرغيف النظيف وكرامة الإنسان والديمقراطية والإبداع الفني بكافة صوره وحرية التعبير،كل هذا أجّلوه واعتدوا عليه حتى تحل قضايانا القومية الكبرى،وكأن القضايا الكبرى منفصلة عن هموم المواطن اليومية، لكن لسوء حظهم أن شعوبنا اكتشفت أن هناك ربيعًا،ورأت بعين اليقين أنه لا حل للقضايا القومية الكبرى ولا تحرير لحبة تراب واحدة بدون حرية وكرامة المواطن وشبعه واحترامه وتقديس خصوصيته وذوقه وصحته،وليست هناك قضية قومية ووطنية وأخلاقية أكبر وأهم من قضية الإنسان وتفاصيل حياته اليومية التي لا تتجزأ ولا تنفصل عن أكبر وأهم وأعقد قضايا العصر،من حفنة الطحين حتى تحرير الأوطان من الاحتلال والغزو الأجنبي ومن الفساد والاستهتار بالمواطن وحقوقه والقمع والبطش والظلم الداخلي.