بقلم : رشاد أبوشاور ... 25.04.2012
في أعقاب (زيارة) مفتي الديار المصرية الشيخ علي جمعة للمسجد الأقصى في القدس التي يحولها الاحتلال يوميا إلى قدس يهودية بخطى حثيثة، في ظل صمت عربي متواطئ، وإسلامي غائب، ودولي متآمر تقوده أمريكا..تفجرت حملة في مصر تحديدا على المفتي والزيارة، وكانت الإدانات دينية، وشعبية، وسياسية، وكان للفنانين، والمثقفين، والصحافيين، صناع الرأي موقف رافض ومُدين للزيارة.
وزير أوقاف السلطة رحب، ونافح عن زيارة المفتي، وحاول تبرئة المفتي من شبهة التطبيع السياسي، واصفا ما قام به بأنه أفرح قلوب المقدسيين والفلسطينيين..كيف عرف أن الفلسطينيين فرحوا، وهل هو ناطق باسم الشعب الفلسطيني؟!
المفتي علي جمعة وإزاء الحملة عليه، اضطر لعقد مؤتمر صحافي كان أبرز ما قاله فيه: الله منّ علي بهذه النعمة التي لم أستطع ردها!
ترى: كيف منّ الله على المفتي بنعمة زيارة الأقصى والقدس؟ هل هبط عليه تصريح الزيارة من (غامض) علم الله؟ أم إن هناك من اتصل، وسهّل، وأغرى، واستدرج ..وهذا كله سياسة تنسجم مع من تربطهم علاقات واتفاقات بالكيان الصهيوني؟!
الفلسطينيون لم ينتظروا أن يمن الله عليهم بالعودة إلى فلسطين وهم قاعدون، ولذلك قاوموا، وقاتلوا، وسقطوا شهداء، ومنهم ألوف الأسرى الذين يضربون حد الموت عن الطعام لانتزاع حريتهم وحرية وطنهم، وأسيرات أنجبن وراء القضبان..وهم كفلسطينيين وطنهم محتل، ومعتدى عليهم، يؤمنون بأن الجهاد، الكفاح، النضال، المقاومة..بكل الأساليب والوسائل، وفي مقدمتها الكفاح المسلح..هي السبيل لتحرير فلسطين، فالله لا يسمع من ساكت، ولا ينصر من لا ينصره، ولا يحرر أوطانا محتلة إلاّ بالمقاومة، وبما أن المفتي رجل دين، نقول له: إلا بالجهاد، الفريضة التي تحرّم التعامل مع المحتل، فالله يأمر المؤمنين: وقاتلوا الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم. فهل زيارة (مولانا) هي قتال، وهل هي وسيلة المؤمن لطرد الاحتلال من ديار (الإسلام)؟!.
عندما زار السادات الكيان الصهيوني، والتقى بقادته من غولدا مائير حتى دايان، ذهب بعدئذ إلى الأقصى ليصلي، فبماذا خاطبه خطيب الأقصى يومها: صلاح الدين الأيوبي دخل القدس محررا، وصلى في الأقصى بعد تحريره من الصليبيين..ما رأي المفتي، ومن يُفتون ويبررون له؟!
هذا ما يقوله الدين، ويقوله الإسلام، وتقوله المسيحية العربية في فلسطين وكل ديار العرب، ولذا يحتفظ شعبنا بالتقدير والاعتزاز للمطران حجّار، وللمطران عطا الله حنا، وللمجاهد المقاوم البطل أنطون داوود، وللقائد الفذ جورج حبش، وللبابا شنودة العظيم الذي أفتى لأهلنا الأقباط بحرمة زيارة القدس والحج إليها إلاّ بعد تحريرها، ومن بعد دخولها يدا بيد مع الأخوة المسلمين.
قال الشيخ محاولاً التخفيف من بشاعة ما اقترف: لم أر جنود احتلال في الأقصى..فهل معنى ذلك أن الأقصى منطقة دينية حًرّة؟! فمن إذا يمنع المقدسيين والفلسطينيين في كل جمعة من التوجه للأقصى للصلاة إلاّ لأعمار محددة، وهو ما يضطر كثيرا من المؤمنين للصلاة في الشوارع، والأزقة، وتحت فوهات بنادق جنود الاحتلال، والفرسان الذين على خيولهم يلاحقون الفلسطينيين الزاحفين أسبوعيا من كل مدن وقرى فلسطين، ولا سيما مناطق فلسطين المحتلة عام 48.
إذاعة جيش (الدفاع) ـ جيش الاحتلال الصهيوني ـ قالت بأن الزيارة تمت بالتنسيق عن طريق وحدة الاتصال بالقوى الأجنبية التابعة للجيش..فهل هذه هي النعمة الإلهية يا مولانا؟!
ذكرني ما صرح به المفتي علي جمعه بما كان برر به شيخ الأزهر طنطاوي مصافحته الحّارة لشمعون بيرس، والتي تصلح لوصلة في المسرح الكوميدي: ما عرفتوش لما سلمت عليا. (كان ينقص أن يضيف بلهجة مسرحية كوميدية: آ ..والنعمة يا خويا!)
ألم ير الشيخ علي جمعة الحفريات تحت الأقصى، مع إنها وضاحة لكل ذي عينين يقلقه ما يدبّر للأقصى، فما بالك والزائر الجليل هو مفتي الديار المصرية. لماذا لم يطلب المفتي أن يدور حول الأقصى، ويتفقد جدرانه وأساساته، ليرفع صوته محذرا المسلمين مما ينتظر الأقصى، داعيا إياهم للجهاد أسوة بالشيخ القسّام؟! ولماذا لم يمش بضع خطوات ليرى الجسر الذي ينشئه الاحتلال في باب المغاربة والذي هو فعل عسكري مفضوح، كي يتأكد له أن الأقصى في خطر!
لماذا لم يطلب لقاء الشيخ الدكتورعكرمة صبري رئيس الهيئة الإسلامية العليا بالقدس، وخطيب المسجد الأقصى المحروم من دخول الأقصى و..الخطابة فيه..لأنه بنظر الاحتلال وقوانينه خطر على الأمن..أمن الاحتلال طبعا؟!
هل يعلم مفتي الديار المصرية، والأمر معلن، بأن الشيخ رائد صلاح ممنوع من الاقتراب من الأقصى، وأنه عاد من لندن بعد أن كسب معركة منعه من دخول بريطانيا، وسجل انتصارا على العنصرية في عقر دارها، وأنه من أشرف على إعادة تأهيل المسجد المرواني مع فلسطينيي الجزء المحتل من فلسطيننا الغالية منذ العام 1948؟!
في مقابلة مع مراسل 'القدس العربي'، بعد يومين من زيارة مفتي الديار المصرية، قال الشيخ عكرمة صبري يوم الجمعة، بعد زيارة علي جمعة بيومين، قولاً حاسما قاطعا: زيارة أي عربي للقدس وهي تحت الاحتلال تعتبر تطبيعا مع الاحتلال.
وأضاف: ما فائدة الزيارة ومؤسسات القدس الصحية والتعليمية تحتضر حاليا. نحن نقول: لا بد من الدعم الحقيقي للقدس ومواطنيها في ظل الهجمة الاستيطانية والتهويدية التي تتعرض لها المدينة المقدسة. القمة العربية في سيرت بليبيا قررت 500 مليون دولار دعما للقدس..فلماذا لم يلتزم العرب بهذا القرار؟! أنا أرى أن زيارة القدس وهي تحت الاحتلال بمثابة حبة أسبرين لإنسان مصاب بالسرطان. ما فائدة الزيارة ومؤسسات القدس تحتضر حاليا. نحن نقول: لا بد من الدعم الحقيقي للقدس...
وهكذا فإننا نرى رأيين فلسطينيين، واحد يخلط السياسة بالدين، وهو مأزوم منذ أوسلو..تروّج له السلطة، وتقدم الغطاء للمطبعين والمقصرين العرب الرسميين للتنصل من التزاماتهم، ولمثقفين انتهازيين متقاعسين معادين في جوهر تفكيرهم للمقاومة، وهم لا يؤمنون بأن معركة فلسطين هي معركة الأمة كلها..ورأي آخر يقول بالمقاومة، وبعروبة فلسطين، وأن أي زيارة من عربي، أو مسلم، هي تطبيع..أي تتعامل مع الاحتلال كأمر واقع، وتغطيه له أمام العالم تمكنه من الادعاء بأنه يسمح (بنعمه) الإلهية للمؤمنين المسلمين بزيارة القدس الشرقية والصلاة في الأقصى..وهكذا يختزل الصراع الوجودي بين الأمة وأعدائها بالصلاة في الأقصى، بفضل من الاحتلال الذي قسّم الحرم الإبراهيمي، ويحرق مستوطنوه المساجد والمصاحف..والذي يدعي أن الأقصى أقيم فوق هيكل سليمان!
هكذا زيارات هي مسخ لمفهوم الصراع، وتبرئة لأنظمة التآمر على فلسطين، وكل من يدعو لها، ويشجع عليها يبتذل قضية فلسطين، وينطلق من مصالح لا صلة لها بفلسطين، ومقاومة شعبها، وتضحيات الأمة على مدى مائة عام لصد الهجمة الصهيونية المدعومة أمريكيا، ومن قبل وبعد بريطانيا وغربيا.
حركت (زيارة) مفتي مصر الركود المحيط بالقضية الفلسطينية، ومن جديد برهنت على حيوية وعي وصلابة صنّاع الرأي في مصر الذين رفضوا وأدانوا الزيارة انطلاقا من عروبة الصراع.
بقي أن نصلب نحن المثقفين الفلسطينيين موقفنا، ونوضحه، ونرفعه عاليا..حتى لا يكون صوت وزير أوقاف السلطة الذي تكلم باسم الشعب الفلسطيني( كله)!..أكثر من صوت موظف في السلطة العاجزة ـ تشترك السلطتان في العجز..وتتقاسمان بؤس المواقف ـ عن حماية شبر أرض، أو تحرير أسير!