بقلم : بشرى الهلالي ... 26.04.2012
يقال إن ضربة أول سوط هي الاقسى والاكثر ايلاما للسجين، وانه كلما ازداد الضرب، سرى الخدر في الجسد حتى ازداد تقبله للمزيد يوما بعد يوم. في الايام الاول تكون اطلالة الجلاد لاصطحابه الى غرفة التعذيب هي المشهد الاكثر رعبا للسجين، فيميز خطوات جلاده الثقيلة ليدرك ان موعد تناول الوجبة قد حان، وقد يصبح قادرا حتى على التمييز فيما اذا كانت الوجبة دسمة او خفيفة. وعادة، تكون الايام الاول مشحونة بكل انواع الألم، الألم الجسدي الناتج عن آثار ادوات التعذيب، والألم النفسي الناتج عن الوحدة والخوف والترقب في عالم السجن الجديد. فالحرية في هذا العالم تأتي مع اطلالة اشعة الشمس القادمة من خلف القضبان، إن كانت هنالك نافذة مطلة على الفضاء الخارجي.
وشيئا فشيئا.. يغادر الالم نهايات الاعصاب، فيتحول الجسد الى حائط لا يفرق بين ضربة سوط او شحنة كهرباء. وقبل ذلك.. كان الفرح قد غادر مع الخطوة الاولى التي عبرت جدران السجن...
فمتى غادرنا الفرح، نحن الذين لم تطأ اقدامنا تلك الجدران؟ والسؤال الاكثر ايلاما، متى غادرنا الالم، حتى تحولت اجسادنا الى (حيطان) لا تشعر حتى بلفحة نسيم او حرارة ظهيرة او حتى عاصفة ترابية، وان اصبحت الاخيرة جزءا من تراثنا؟
.. لأن الالم دليل على انسانية الفرد، صرنا نستجدي حتى الالم. ذابت احاسيسنا وسط الم الانتظار، الانتظار لكل شيء.. لقادم قد يأتي ولا يأتي.
لطالما فزّت صرخة الفرح، وغصّت شهقة اللهفة.. في بداية كل حدث، كل سنة، كل انتخابات، هلال كل اول شهر، بداية تكوين كل حكومة، اول نبضة حب، حتى تساوت البدايات مع النهايات وصارت حياتنا دورة مكررة لساعة حائط.
لم تعد الاجساد الممزقة في نشرات الاخبار تعلن نهاية حياة بشر او تدهور وضع امني او حتى كارثة مأساوية، بل خبر ، مجرد خبر ينتهي الاحساس به فور غياب الصورة والحدث، خصوصا في ظل نشاط دوائر البلدية في تنظيف وإزالة آثار الحادث فورا.
لم تعد اجابة الموظف بـ(لا) او حتى جفاءه، او قسوة نظرته المتعالية تؤشر حالة سلبية او اضطهادا لكرامة المواطن، بل صارت جزءا من النظام الداخلي لدوائرنا، حتى صارت ابتسامة الموظفة تعد مكرمة لا تقل اهمية عن رفع مفرزة حتى وإن زرعت غيرها على بعد خطوات.
لم تعد الاحلام قادرة على زعزعة جبل الجليد الجاثم على صدورنا. عندما نحاول التسلل اليها خلسة.. في ليلة غياب عن الوعي، تشرئب رقبة السجان فتنزوي احلامنا في ركن بعيد بانتظار ان ترمى في سلة المهملات آخر النهار.
تلونت الاماكن بالرمادي.. لملمت اشعة الشمس ضفائرها وانزوت خلف صقيع الغربة.. لم يعد حتى الحب قادرا على ان ازاحة الرماد، فقد شاخ كيوبيد وعجزت يده المرتعشة عن اصابة قلوب تشتهي عشقا مبرمجا على شاشة حاسوب.. وربما عجزت الاجساد عن حمل القلوب، فصارت الغربة وطنا والحب غربة.
اسقطنا الفرح سهوا، فصرنا الضحية والجلاد.. نتباكى ماضيا لن يعود، ونلعن حاضرا نرفض باصرار ان نطل برؤوسنا من احد ابوابه خشية ان تكون (الخيبة) هي القادم الجديد.
في احد الافلام، يطلق سراح محمود بعد اكثر من عشرين عاما من الحبس الشديد. اتذكر مشهد خروجه من بوابة السجن وهو يقدم قدما ويؤخر اخرى، وبعد بضعة ايام يضيع في عالم الحرية، يستأجر محمود شخصا ليجلده يوميا.. فجسده يرفض ان ينسى حالة الخدر.
معظمنا صار محمودا، أدمنّا ضرب السياط ورائحة الدم الفاسد ينبعث من أجساد أيامنا المتناثرة على رصيف عمر صار شعاره (تخلص).