بقلم : د.اوعاد الدسوقي ... 13.05.2012
وقف الأبناء مذعورين امام العناية المركزة , يحبس كل منهم انفاسه , مشاعر تتأرجح بين الخوف و القلق , تعلقت ابصارهم بباب غرفة العناية مترقبين خروج الطبيب , لحظات صمت مرت كدهر , قتلهم فيها الإنتظار , خرج بعدها الطبيب بـ وجه عابث ومن وراءه طاقم التمريض , التف حوله الأشقاء الأربعة يتطلعون الي وجهه, لم يمتلك اي منهم الشجاعة لسؤاله عن الحالة خشي الجميع ان يسأل حتي لا يسمع مالا يحب , بعد تردد استجمعت علياء شجاعتها "دكتور ممكن تطمئنا علي حالة بابا؟"
الدكتور :" للأسف يا مدام الحالة حرجة نحتاج الي 24ساعة لـ نتخطى مرحلة الخطر وان كنت أري الأمل ضعيف استعدوا لأي شئ " نزل كلام الطيب كالصاعقة فوق رؤوسهم , انفجرت علياء باكية احتضنها عصام الشقيق الاكبر , حاول تهدئتها , انزوي كل منهم في احد الاركان يسترجع ذكرياته مع الوالد, ويفكر في المستقبل وكيف ستكون احوالهم ان فارق الحياة وغربت شمسه للأبد , خوف ملأ قلوبهم ان يفقدوا المرفأ الأمن الذي تستقر عليه سفنهم ان ارتفعت امواج الحياة وكادت تغرقهم , عصام ينظر الي اخوته والألم يعتصر قلبة , يقف مرة اخري امام زجاج غرفة العناية يري والده ممدد علي السرير , يتساءل كيف سقط بهذا الشكل المفاجئ وهو الرجل القوي الذي يتمتع بصحة جيدة لم يشتكي يوماً عرض او مرض , الأن يرقد علي هذا النحو تحت رحمة الأجهزة و الأسلاك التي تحيط بجسده , يقبل عصام زجاج غرفة العناية وكأنه يرسل قبلة اعتذار علي جبين الوالد الذي حاول جاهداً يقرب فيما بين اولاده بعد ان ابعدتهم مشاغل الحياة عنه و عن بعضهم كان يحلم ان يجتمعوا سوياً ببيت العائلة ولو مره واحده كل اسبوع ولكن لم يهتم احد, الأن يجتمعوا كما تمني ولكن ليحضروا لحظات احتضاره , يتمتم عصام كم هو أب عظيم تحمل قسوتنا واهمالنا بعد ان جعلنا متع الحياة اكبر همنا ,و ياله من أب حكيم اصر علي توزيع ثروته وهو علي قيد الحياة وعندما سألناه لماذا: قال اخشي ان يحدث بينكم فتنة وخلاف علي الميراث بعد وفاتي , فمهما كانت قوة رابطة الدم التي تجمعكم فأن بريق المال اقوي وكما قيل قديماً الفلوس تغير النفوس . جلس عاطف بجوار عصام دون ان ينبث ببنت شفه , مشاعر الحزن اكبر من الكلمات , لا يصدق ان هذا القلب الحنون سيتوقف الي الابد , وليس هذا فحسب بل سيفارق الدنيا وهو غير راضي عنه وغاضب منه , استدار الي الحائط خبط راسه عده مرات وهو يلوم نفسه يتمني ان تكون زوجته المتسلطه امامه الان ليلقي عليها يمين الطلاق فهي سبب القطيعة بينه وبين والده بتكبرها وغرورها , يجز عاطف علي اسنانه ويقرض اظافره ندماً فقد تزوجها دون رغبة والده الذي تنبأ لهذه الزيجة بالفشل لسوء طباعها وعنجهيتها ولكن ضرب عاطف بكلامه عرض الحائط وتزوجها فدفع الثمن باهظاً منذ اليوم الأول من اعصابه وصحته ورضا والده, يتمني عاطف لو ان عاد به الزمن للوراء و ان لو لم يرتكب تلك الحماقة. اخرجت علياء منديل ورق من حقيبتها واقتربت من عاطف تمسح له الدماء التي سالت علي جبهته وهي تقول :ما تفعله لن يفيد تماسك وادعوا له ان يشفي ويعود سالماً لتكون لدينا فرصة للتكفير عن اخطائنا في حق والدنا الحبيب , أن كنت انت نادم علي ما فعلت فأنا اشد منك ندماً , علي هذه التصرفات الشيطانية التي اخطأت بها في حق نفسي وحق والدي , وقعت بين براثن ابن شريكة, سلمت له نفسي باسم الحب , استغلني هذا الحقير لمحاربة والدي ولي ذراعه والانتقام منه ساعدته بدون قصد , وعندما علمت الحقيقة كان قد فات الاوان , اذعنت لإبتزازه فعلت ما طلبه مني ليتزوجني ولكن لم يفعل , عُدت مذلوله مكسوره ارتميت في حضن والدي حكيت له كل شئ ثار وغضب ولكن لم يؤذيني حاول لملمة شرفي و تضميد جراحي تنازل لـ شريكة وابنه الحقير عن الأرض سبب النزاع ليتزوجني يوم واحد و بعدها يطلقني , بينما كانت علياء شاردة مع افكارها كان عمر الشقيق الاصغر المتخرج من الجامعة حديثاً يسعل بقوة ولا يستطيع التنفس , طلب عصام من الممرضة ان تحضر طبيب للكشف علي عمر , سند عاطف عمر علي يديه ثم اخذه في حضنه , جاء الطبيب بعد الكشف طلب منه ان ينزل الي الطابق الثاني ليجري له بعض الفحوصات و اخذ عينة دم للتحليل و صورة اشعة للصدر , ذهب الأشقاء الثلاثة مع عمر لأجراء الفحوصات ثم عادوا مره اخري الي حيث يرقد والدهم , جلسوا وكأن علي رؤوسهم الطير في انتظار خبر عن الاب او عن نتائج تحليل عمر , الساعة الرابعة فجراً مازال الجميع مستيقظ خاصم النوم اجفانهم قلقاً وندماً , بدأت الحركة تدب في المستشفي مع شروق الشمس , ذهب عاطف الي الكافتيريا احضر شاي و إفطار لأشقائه , فمنذ الامس لم يذوقوا طعم الزاد , تناول عمر رشفة من كوب الشاي وقبل ان يأخذ رشفه اخري , جاءت الممرضة تخبره نتائج التحاليل ظهرت والطبيب يطلبه , ذهب عاطف و عمر الي الطبيب جلسا امامه اخبرهما ان عمر يعاني من السل واصل الطبيب حديثة ان الحالة مزمنة فلو جاءت مبكرا عن ذلك لكان في الامكان السيطرة علي المرض والشفاء منه بشكل اسرع , تجمد وجه عمر ودفن راسه بين يديه تذكر كيف بح صوت والده وهو يطلب منه الامتناع عن التدخين وكيف كان يتوسل ان يذهب الي الطبيب وعمل فحوصات ولكن عمر كان يقابل كلام والده بـ التذمر و الضجر احياناً و يرفع صوته علية احياناً اخري ليكف عن ملاحقته بتلك النصائح . كتب الطبيب بعض الادوية لعمر ونصحه بالامتناع نهائياً عن التدخين والحفاظ عل مواعيد الادوية شكر عمر الطبيب وانصرف مع شقيقة . طلب عمر من عاطف الا يخبر علياء وعصام بحقيقة مرضه حتي لا يزيد عليهم الهم , تقابلا مع طبيب والدهم في المصعد سألوه ان كان هناك جديد .قال لهما لا جديد ادعوا له عاد الاشقاء الاربعة للجلوس امام غرفة العناية المركزة وايديهم متشابكه , يجمع بينهم لأول مرة احساس واحد, توحدت قلوبهم و السنتهم في ترديد نفس الدعاء ان يمن الله بالشفاء علي والدهم وقد بدي علي وجوههم مشاعر الندم علي ما اقترفوه بحقه , كل منهم يتمني ان يعود به الزمان ليعوض هذا الرجل عن الجحود ونكران الجميل , اوقات عصيبة الساعة تمر تلو الاخري ولا احد من طاقم التمريض او الطبيب يرد علي اسألتهم , تقول علياء مرت الـ 24ساعة اخشي ان يتوفي والدي وهو غاضب منا فنخسر دنيتنا واخرتنا . ردد عمر الاية الكريمة(( وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا )) قال عصام لعمر تأخرنا كثيراً ياعمر لنفهم معني هذه الاية الكريمة و عندما فهمناها كان من الصعب العمل بها . اطلق عاطف تنهيدة وقال اولادنا سيفعلون معنا مثلما كنا نفعل مع والدنا , اتذكر مدرس اللغة العربية في ثانوي كان يقول (( بروا آباءكم تبركم أبناؤكم، واعلموا أن سخط الله في سخط الوالدين وأن رضاه لا يكون إلا إذا رضي عنكم الوالدان ولا شيء يزيد في العمر ويبارك في الرزق مثل بر الوالدين وصلة الأرحام )) ليتني عملت بتلك النصيحة .صرخت علياء بالله عليكم ادعوا له بالشفاء وان يمنحنا الله فرصة ثانية استدعت الممرضة الطبيب الذي جاء مسرعاً قلب المريض توقف , الأبناء صوتهم ارتفع بـ البكاء و النحيب , سمح لهم بالقاء النظرة الاخيرة قبل رفع الاجهزة عن جسده , دخل الابناء يقبلون يده و يطلبون السماح في مشهد درامي حزين , الطبيب يأمرهم بالخروج ولكن تشبثوا بجسد الأب رافضين رفع الاجهزة عنه , لحظات شد وجذب بين الطبيب والابناء فاق علي اثرها الاب وفتح عينيه ذهل الجميع هل حدثت المعجزة؟! سادة حالة من الهرج والارتباك والفرح في نفس الوقت طلب الطبيب الهدوء ليتمكن من توقيع الكشف , بشرهم ان قلب الاب عاد الي عمله بشكل طبيعي وسيتم نقلة الي غرفة عادية خلال الساعات القادمة فرحة عارمة عمت ارجاء المكان, سجد الابناء لله شكراً , غادر الاب المستشفي بعد عدة ايام محاط بمشاعر الحب يتسابق الجميع في ارضاه , بعد ان قطعوا و عد و عهد علي انفسهم ان يستغلوا الفرصة التي منحهم الله اياها عقب اصعب 24 ساعة مرت عليهم في الحياة عرفوا خلالها مدي حبهم لوالدهم ومكانته في قلوبهم واعتبروا تلك المحنه رسالة من الله عز وجل لإصلاح علاقتهم بـ الاب قبل ان يتوفي وهو غاضب عليهم فيصبحوا علي ما فعلوا نادمين , مرت خمس سنوات تغيروا فيها الي الافضل استوعبوا الدرس و راجع كل منهم اخطائه ,فتحوا صفحات جديدة مع الحياة عصام لم يعد المال والصفقات اكبر همه بل اصبحت اسرته و والده اولوية اولي . عاطف طلق زوجته و ارتبط بزوجه اخري سعيد معها ورزق بولد , اما علياء تصالحت مع الدنيا بعد ان وجدت الحب الحقيقي , عمر اكمل العلاج وتخلص من عبودية السيجارة والحشيش والخمر, تغيروا جميعاً بفضل ذكاء وحكمة الاب الذي ايقن ان النصح و الارشاد اصبح لا جدوى منه وخاصة بعد ان تعامل اولاده مع كلامة بلا مبالاة فـ لقنهم درس عن طريق اخضاعهم لمحنه تزلزلهم وتفتح اعينهم علي الدنيا وتعلمهم قيمة الوالدين وتقربهم من بعضهم البعض فلجأ الاب الي حيلة المرض والموت بالاتفاق مع ابن صديقة دكتور شاكر صاحب المستشفي الخاص التي كانت مسرح للأحداث .