أحدث الأخبار
الثلاثاء 26 تشرين ثاني/نوفمبر 2024
بلا روح!!

بقلم : بشرى الهلالي  ... 17.05.2012

للمرة الرابعة اشاهد فلم (ملائكة المدينة)، برغم أني لا أحب مشاهدة أي فلم لأكثر من مرة، ففضلا عما تمتع به الفلم من روعة في السيناريو والحوار وأداء ممثليه، فقد جذبني بفكرته المميزة، ولا ادعي تحليل الفلم فنيا فلست متخصصة في النقد الفني. الرائعة (ميغ رايان) تظهر في الفلم كطبيبة مشهورة لم يسبق لها الفشل في عملية جراحية، تتعامل مع الحياة من خلال مبضع الجراح، ولا تقر بوجود الحب وتفسره على انه (استجابة كيميائية) بين ذكر وانثى لاشباع رغبات معينة. وفي احدى عملياتها يفقد مريضها حياته، فتنفرد لتبكي وحيدة على السلم الخلفي للمستشفى، وفي تلك اللحظة الانسانية يراقبها (نيكولاس كيج) بطل الفلم، ملاك الموت الصالح الذي حضر لاصطحاب مريضها الى السماء فيقع في حبها ويظل يلازمها في كل مكان دون ان تراه، لكنها تبدأ بالشعور بشيء ما يحيط كيانها، وعندما يكشف لها عن نفسه يتحول هذا الشعور الى حب ترفض تصديقه، ويزداد جنونها حين يخبرها بأنه روح ملاك، فتسخر منه قائلة (لايمكنني ادراك ذلك!)، لكنها تدرك تدريجيا انها وقعت في المحظور واحبت ذلك الملاك بروحه الهائمة بين الارض والسماء.
السؤال الذي يراودني كلما شاهدت الفلم، ما الذي يدفع البطلة لعشق روح وهي الانسانة العملية بسلوكها وتفكيرها، هل نفد الرجال من الارض؟ بالطبع لم ينفد الرجال، بل فيهم الكثير ممن يبحث عن الحب، لكن الروح هي التي هامت وضيعت مساراتها بين الارض والسماء، واستبدلنا مكانها بروبوت يتحرك وفق ايعازات تفرضها علينا مسميات كثيرة. حتى عندما نجد الحب فإننا نلجأ الى محاربة ارواحنا التي قد تنهض من سباتها على وقع خطواته الدافئة، فنضع آلاف العقبات في طريقه كي نقطع عليه خط الوصول الى اعماقنا التي نضرب عليها حصارا مشددا، حتى الحب يجب ان يخضع لرغبة الروبوت.
مازلنا نبتسم.. منذ بداية اليوم وحتى نهايته، ونوزع كل اشكال الكلام المنمق في وجوه من نلتقيهم لكننا لاندرك ارواحهم ولايهمنا ذلك، بل العكس، معظمنا يخشى الاقتراب من عالم الروح لأنه يسقط الاقنعة فنقف امام الآخر مجردين من زيفنا. فالحب في عالم الحرب والقتل والعولمة والاقتصاد الحر تعرض بدوره الى الخصخصة، حتى صار الرجل يشم في الانثى رائحة الجسد او رائحة المكان الذي يلقي فيه رحاله بعد رحلة عناء طويلة، بينما تلتمع عين المرأة لمرأى جيب الرجل او تختبئ تحت جنحه بحثا عن الأمان. وسواء جمعهما سقف او شارع او كوفي شوب، يبذل الاثنان جهدا لتجميل نغمة الصوت وبرمجة الهمس والجهد الاكبر هو لكبت آهات الروح التي يخفت صوتها منذ أن ارتفعت اصوات القنابل والرصاص ووشمت الذاكرة بالسواتر.
ليس غريبا ان يحل (الحب) بمفهمومه الجديد في المسلسلات التركية والعربية مكان (عشق الروح) الذي ترنم به عبد الوهاب على انه (ملوش آخر)، وليس غريبا ايضا ان تجده بطلة الفلم في روح ملاك لا يمت الى الحضارة بصلة، لانه يعيش في عالم السماء الذي لايحتمل الزيف. فهل رحل الحب حقا؟ .
لم يرحل الحب بل تغربنا عنه.. غربة في الخارج وغربة في الداخل، والاقسى من كل ذلك غربتنا داخل انفسنا. نبحث عن الحب ونكتب ونقرأ عنه ونطويه في احلامنا لكننا نخشى ان يقترب من شغاف الروح لئلا يوقظ الحقيقة، حقيقة خوفنا من ملامسته جرف انسانيتنا، فلم نعد نرغب حتى بالنجاة من الغرق في مستنقع الواقع. نخشى لحظة الفهم، تلك التي قال عنها بطل الفلم وهو يشير الى حبيبته (كنا نسأل الموتى في اول وصولهم الى السماء عن أكثر شيء احبوه في الدنيا، فكانوا يقولون الحب. الآن فهمت ما كانوا يقصدونه، انه هذا)، لذا قرر ان يترك السماء ويعود الى الارض بكل قسوتها وعذاباتها وما يواجهه من كره بني البشر. فمن منا يملك الشجاعة للتخلي عن السماء؟ ليس من السهل ذلك، لأن بلادة اليأس أكثر سهولة وعقارب الساعة تختصر علينا مسافة البحث عن طريق فنتبعها بقلوب عمياء.
ولأنها لمست روحه، تختصر البطلة كل رجال الأرض وتعشق روحا هبطت لتمتزج بروحها، لكن آلة الحضارة تظل هي الاقوى فتسحق احلامها وتنهي حياتها بعد اول ليلة تقضيها معه، فتستقبل الموت بابتسامة فقد عاشت حياتها ولو لليلة واحدة لتقول له (لم اعد خائفة، واذا سألوني في السماء عن اكثر شيء احببته في الدنيا، فسأقول انت)...