بقلم : نقولا ناصر* ... 05.01.2013
(بين مشروع الدولة القائمة على أساس التقسيم وبين مشروع الثورة التي فجرتها الانطلاقة رفضا للتقسيم لم يفقد الشعب الفلسطيني حكمته ليتخلى عن مرجعيات"الانطلاقة" مرشدا له)
إن الانقلاب على المشروع الوطني ل"الثورة والتحرير والعودة" عن طريق المقاومة و"الكفاح المسلح" الذي تبنته منظمة التحرير الفلسطينية قبل احتلال عام 1967 توج بإلغاء كل المواد التي تشرع لهذا المشروع في الميثاق الوطني الفلسطيني في دورة للمجلس الوطني للمنظمة انعقدت عام 1999 بغزة برعاية الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون، وهي الدورة التي سبقها وأعقبها عملية غسل دماغ جماعية لا زالت مستمرة للشعب الفلسطيني تحاول إقناعه باستبدال مشروع دويلة على أقل من عشرين في المئة من فلسطين التاريخية بمشروع الثورة الأصيل والأصلي.
وكان "إعلان الاستقلال" الصادر عن المجلس الوطني للمنظمة في الجزائر عام 1988 قد حظي بموافقة أغلبية أعضاء المجلس على مشروع "الدولة" على أي جزء يتم تحريره من فلسطين باعتباره هدفا "مرحليا" تكون الدولة فيه رافعة لاستكمال مشروع الثورة والتحرير والعودة.
وعندما تبين للشعب الفلسطيني أن مشروع "الدولة" قد تحول إلى هدف في حد ذاته يجهض مشروع "الثورة" من أساسه انفض التأييد الشعبي للدولة كهدف مرحلي وبدأ الانقسام الوطني بين أنصار الدولة كهدف نهائي ينهي الصراع على الوجود في فلسطين التاريخية ويحوله إلى نزاع على حدود هذه الدولة وبين أنصار الدولة كهدف مرحلي تكون الدولة فيه جزءا لا يتجزأ من مشروع الثورة الأصيل والأصلي.
وقد كانت مفارقة تاريخية حقا أن يجيء الرد على الانحراف عن مشروع الثورة والانقلاب عليه من غزة ذاتها حيث أضفيت شرعية مزيفة على هذا الانقلاب من المجلس الوطني برعاية أميركية، بالرغم من مرارة الانقسام اللاحقة، هذا الانقسام الذي يجري اليوم التركيز على سلبيات نتائجه وإهمال الأسباب التي قادت إليه وجعلت وقوعه أمرا متوقعا حتميا، ب"حماس" أو من دونها، وكان أي عنوان آخر لهذا الرد غير حماس سوف يحظى بالفوز الانتخابي الساحق الذي حققته الحركة عام 2006 بعد أن اكتشف الشعب الانقلاب على مشروع ثورته باسم "الدولة".
في سياق الجدل حول المكان الذي كانت حركة التحرير الوطني الفلسطيني "فتح" في غزة ستحتفل فيه بالذكرى الثامنة والأربعين لانطلاقتها، تساءل مفاوض منظمة التحرير السابق حسن عصفور، في مقال له مؤخرا، عما إذا كانت حركة المقاومة الاسلامية "حماس" تعتبر هذه الذكرى هي "ال"يوم الوطني الفلسطيني.
وللإجابة على تساؤله، ربما كان يجدر ب"حماس" أن تحيل عصفور إلى سؤال وجهه استاذ العلوم السياسية بجامعة بوردو الفرنسية، الصهيوني لويس رينى بيريس، للرئيس الأميركي في مقال له في السادس والعشرين من الشهر الماضي بعنوان "إسرائيل وْفلسطينْ: مذكرة إلى باراك أوباما" تساءل فيه عما كانت منظمة التحرير الفلسطينية، وبالتالي "فتح"، تخطط ل"تحريره" قبل احتلال الضفة الغربية وقطاع غزة في سنة 1967 !
ففي الإجابة على سؤال بيريس يوجد الجواب، سلبا أم ايجابا، على تساؤل عصفور، من "حماس" ومن غيرها على حد سواء، وفي الاتفاق على هذه الاجابة يكمن إحياء الوحدة الوطنية وفي الاختلاف عليها تكمن بذور استمرار الانقسام الراهن.
وفي هذه الإجابة يوجد كذلك التفسير للتناقض بين خطاب منظمة التحرير كما تمثل في إحيائها للذكرى الثامنة والأربعين لانطلاقة "فتح"، التي تقود المنظمة، باعتبارها "ال"يوم الوطني الفلسطيني، تخليدا لليوم الذي أعلنت فيه القيادة العامة لقوات "العاصفة" التابعة للحركة "البلاغ العسكري" الأول للمقاومة ضد الاحتلال في "عملية عيلبون" التي سقط فيها الشهيد الأول للثورة الفلسطينية المعاصرة أحمد موسى الدلكي وبين تهديد الرئيس محمود عباس، قبل ثلاثة أيام فقط من الاحتفال بالذكرى، بأنه "لن يسمح" بتسليح أو تمويل انتفاضة فلسطينية ثالثة لمقاومة الاحتلال في الضفة الغربية.
في ذكرى الانطلاقة، تمنى الرئيس عباس أن يشهد عام 2013 قيام دولة فلسطينية مستقلة، وهي دولة توضح كل مرجعياتها وشروطها أن قيامها مطلوب كحل نهائي للصراع، وليس كهدف مرحلي لاستكمال أهداف مشروع الثورة الفلسطينية، وهذه أهداف سوف تظل معلقة من دون الحل الذي استشرفته لها الانطلاقة، والحلول المعروضة لها على أساس "حل الدولتين" تعقد حلها أكثر من تسهله.
فعلى سبيل المثال، لم تعد عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى مدنهم وقراهم التي شردوا منها هي الحل لمشكلتهم بل أصبح توطينهم في منافيهم وشتاتهم حلا مرفوضا معروضا عليهم يخلق لهم المزيد من المشاكل، وأصبح قيام الدولة الفلسطينية المعروضة اليوم يثير أسئلة جادة، كمثال آخر، عن مصير عرب فلسطين في دولة الاحتلال في ضوء ما يثيره قيام هذه الدولة من جدل تفاوضي حول تبادل السكان والأراضي، الخ.
لقد كان التقسيم هو الذي قاد إلى النكبة في المقام الأول، و"حل الدولتين" ما هو إلا إمعان في المزيد من التقسيم لا يعد إلا بالمزيد من النكبات.
ويثبت كل يوم أن الشعب الفلسطيني الذي رفض التقسيم قبل النكبة - - عندما كان أقل تعليما وأقل وعيا وأقل تسليحا وأقل خبرة في المقاومة وكانت عدالة قضيته أقل وضوحا في المجتمع الدولي وكان عدد أصدقائه في هذا المجتمع أقل - - إنما كان أكثر حكمة من قيادته الحالية، لإدراكه بأن قبوله بتقسيم وطنه آنذاك ما كان له أن يمنع نكبة عام 1948، مثلما يدرك بأن قبول ممثله "الشرعي والوحيد" بالتقسيم اليوم لن يمنع الفصول اللاحقة للنكبة من التتابع إلى أمد غير منظور.
فبين مشروع الدولة القائمة على أساس التقسيم وبين مشروع الثورة التي فجرتها الانطلاقة رفضا للتقسيم لم يفقد الشعب الفلسطيني حكمته ليتخلى عن مرجعيات "الانطلاقة" مرشدا له.
لقد وحدت "انطلاقة" فتح ومشروع الثورة الشعب الفلسطيني، وفرقه مشروع الدولة، وإنها لمفارقة حقا أن يبدو أنصار مشروع استمرار المقاومة والثورة أحق من فتح اليوم في الاحتفال بذكرى انطلاقتها.
لكن هذه المفارقة تستوجب بالتأكيد إجراء مراجعة نقدية لمسيرة النضال الوطني منذ الانطلاقة، خصوصا منذ توقف التكامل بين مشروع الثورة وبين مشروع الدولة وبدأ الافتراق بينهما، في الأقل لتقديم أجوبة مقنعة على أسئلة مثل: كيف يقبل أهل بيت المقدس بتقسيم القدس بينهم وبين غزاتها بينما يرفض المحتلون تقسيمها ويحرصون على بقائها موحدة.
وتمثل هذه المراجعة استحقاقا متأخرا لفتح بقدر ما تمثل استحقاقا مطلوبا لحماس كذلك، بعد أن اضطر حتى الأمين العام لجامعة الدول العربية د. نبيل العربي، خلال زيارته الأخيرة لرام الله المحتلة إلى الاعتراف بأن العشرين سنة المنصرمة من عمر ما يسمى عملية السلام كانت "مضيعة للوقت" الفلسطيني والعربي.