أحدث الأخبار
الجمعة 22 تشرين ثاني/نوفمبر 2024
اقطعوا المراحل الانتقالية بعد الثورات كي لا تقطعكم!!

بقلم : د.فيصل القاسم ... 27.05.2012

من الواضح تماماً أن شعوبنا العربية ليست ناضجة ثورياً. صحيح أنها ثارت بعد عقود من الهوان والإذلال، لكنها وللأسف، ليست صاحبة نفس طويل ولا إستراتيجية ثورية يعتد بها. والدليل أنها استسهلت الثورات، واعتقدت أنها مجرد هبة شعبية سريعة ستحقق من خلالها كل أمانيها وتطلعاتها بكبسة زر. وما لم يحدث ذلك، فهي ستكفر بالثورات وبمن حرض عليها. ومن الواضح أنها بدأت تكفر بثوراتها المجيدة مبكراً. وهذا طبعاً خطأ فادح سيجر عليها كوارث وويلات كثيرة، وسيجعل الشعوب الأخرى التي بدأت تفكر بالثورة على طغاتها تعيد النظر في موقفها، إن لم تحجم عن ذلك تماماً.
لقد جاء فوز أحمد شفيق سليل نظام مبارك الساقط بالمركز الثاني في الانتخابات المصرية صدمة كبرى لكل من راهن على الشعوب وثوراتها. هل يعقل أن هذا المرشح الذي عينه حسني مبارك رئيساً للوزراء قبيل سقوطه على أيدي ثوار 25 يناير يحصل على ربع أصوات المصريين وربما أكثر بعد فرز كامل الأصوات؟ إنها ضربة كبرى لكل الثوريين. وستكون لا شك قاصمة فيما إذا تمكن أحمد شفيق من الفوز بمنصب الرئاسة في الجولة الثانية بفضل إعادة التحالفات والألاعيب العسكرية واستنكاف عدد كبير من المصريين عن التصويت.
لا شك أن أهم أسباب عودة الفلول في مصر إلى الساحة السياسية وتحقيقهم لنتائج طيبة في الانتخابات أن المرحلة الانتقالية المستمرة منذ أكثر من عام كانت قاسية جداً على المصريين، خاصة من الناحيتين الأمنية والاقتصادية. وهذا واضح للعيان، فقد فقدت البلاد الاستقرار والأمان، وسادت الفوضى والبلطجة، ناهيك عن أن الكثيرين فقدوا وظائفهم ومصدر رزقهم، مما جعلهم يكفرون بالساعة التي أيدوا فيها الثورة. وهذا طبعاً خطأ كبير، خاصة أن الثورات لا تحقق غاياتها بين لحظة وأخرى، بل لابد أن تمر بمرحلة عدم استقرار وحتى عوز اقتصادي. ولما لا؟ فكل الثورات عانت قبل أن تصل إلى مرامها. ويكفي أن الثورة الفرنسية وهي من أعظم الثورات في التاريخ استغرقت عشر سنوات حتى وضعت أوزارها، ناهيك عن أنها لم تحقق أهدافها إلا بعد حوالي مائتي عام. فالثورات العظمى أكبر بكثير من أحلام البسطاء وأمانيهم الساذجة "التيك أواي".
أضف إلى ذلك أيضاً أن ما حصل في مصر على مدى أكثر من عام أثناء ما يعرف بالفترة الانتقالية ليس كله نتيجة الثورة المباركة أبداً، بل هو من صنع أعداء الثورة أو ما يعرف بالثورة المضادة التي عملت كل ما بوسعها لتجعل المصريين يكفرون بثورتهم من خلال التشويه المتعمد للثورة. وللأسف فإنها نجحت إلى حد كبير، كما نرى في نتيجة التصويت لأحمد شفيق أحد أعضاء الثورة المضادة الذي يتهمه المصريون بتدبير "موقعة الجمل" في ميدان التحرير وإنزال أبشع الأذى بشباب الثورة. لا أدري لماذا غاب عن أذهان المصريين أن معظم ما عانوه على الصعيدين الأمني والاقتصادي على مدى العام الماضي هو من تدبير أعداء الثورة تحديداً، خاصة عسكر مصر الذين حولوا المرحلة الانتقالية إلى مرحلة انتقامية من الشعب المصري كما يجادل أحد قادة الثورة. الكثير من المصريين يعرف أن مظاهر البلطجة والتشبيح التي تفشت في الشارع المصري هي من تدبير نفس الجهات التي واجهت الثوار بالبلطجية أثناء الثورة. ألا تتذكرون كيف أوعز وزير الداخلية المصري لرجال الأمن بالانسحاب من الشوارع أثناء الثورة كي يفسحوا المجال للمجرمين والقتلة والبلطجية كي يعيثوا رعباً وإرهاباً وتدميراً وفوضى في الشارع المصري؟ ألم يكن ذلك من أجل تنفير المصريين من الثورة وإعادتهم إلى حظيرة مبارك عندما يقارنون الوضع قبل الثورة بما بعدها؟ لقد راح البلطجية التابعون للنظام الساقط أثناء الثورة يعتدون على البيوت ويكسرون المحلات التجارية وينشرون الذعر والرعب في كل زاوية. كل ذلك من أجل تخويف المصريين من المستقبل وإثنائهم عن الاستمرار في الثورة.
وقد زادت أعمال البلطجة والفوضى بعد إنجاز الثورة. وقد شاهدنا ذلك في موقعة ماسبيرو وغيرها. وكل ذلك كان بتدبير من أعداء الثورة والعسكر تحديداً كما يجادل الكثير من المصريين. وحدث ولا حرج عن تقويض الحياة الاقتصادية للمصريين من الجهات ذاتها. فقد زاد الفقر وارتفعت الأسعار، وتفشى الفساد أكثر مما كان عليه أيام الطاغية. ولم يكن ذلك نتيجة للثورة، بقدر ما كان من أعمال الثورة المضادة التي خربت الاقتصاد بهدف إعادة المصريين إلى براثن العهد القديم من خلال الانتخابات الرئاسية. ويبدو أنه بدأ يتحقق لها ما أرادت. بعبارة أخرى فإن المرحلة الانتقالية كانت تمهيداً مبرمجاً اقتصادياً وأمنياً وإعلامياً لإجهاض الثورة ودفع المصريين إلى الاستنجاد بالعهد الساقط.
كم كنت حزيناً عندما سمعت سيدة مصرية تقول للمذيع في أحد مراكز التصويت عندما سألها عن هدفها من الانتخابات:"عايزين نرجع زي ما كنا". وهذا طبعاً أكبر نصر يمكن أن يحققه فلول مبارك وأعداء الثورة على الثوار، وهو أن يجعلوا الشعب يحلم بالعودة إلى بيت الطاعة القديم بعد كل ما كابده خلال المرحلة الانتقالية من مشاق وفوضى. لقد جرب المصريون فترة ما بعد الثورة فوجدوها سيئة للغاية، فندموا على ثورتهم، لكن دون أن يعلموا أن الذين ثاروا عليهم هم من أمعن في تفاقم الأزمة كي يعيدوهم إلى دائرة السيطرة. ولا شك أن شعوباً أخرى بدأ يراودها من اليأس مما راود المصريون وجعلهم يصوتون للفلول بعد أن لاحظت أن أيام الثورة أصعب بكثير من أيام الطغيان القديم. وهذا طبعاً خطأ فظيع، فلابد للشعوب الثائرة أن تعلم أن الثورات ليست شربة ماء، بل تتطلب الكثير من التضحيات، وستواجه الكثير من التحديات والمنغصات والمعوقات والثورات المضادة. وهذا أمر طبيعي جداً.
هل يعلم الشعب المصري أنه، لو لا سمح الله، فاز أحمد شفيق في الانتخابات الرئاسية، فإن ذلك سيكون المسمار الأخير، ليس فقط في نعش الثورة المصرية، بل في كل الثورات العربية الحالية؟ هل تعلم الشعوب العربية الثائرة الأخرى أنها إذا استسلمت ونفذ صبرها من الثورة بسرعة ستعود إلى المربع الأول من الطغيان؟ ألا تعلم أن من ينجز نصف ثورة كمن يحفر قبره بيديه، فما بالك إذا ندم على الثورة، وعاد إلى أحضان جلاديه، كما يفعل بعض المصريين الآن بتصويتهم لأحمد شفيق سليل النظام البائد؟ أرجوكم تخلصوا من متلازمة استوكهولم التي يتعلق فيها الضحية بجلاده. أليس من "يجرب المجرب يكون عقله مخربا"؟
المراحل الانتقالية، على علاتها وسوئها وبؤسها، مراحل ضرورية لإنجاز الثورات، فالرجاء أن تقطعوها كي لا تقطعكم، وأعلموا دائماً أن أعداء الثورات سيحولونها إلى مراحل انتقامية، فلا تجعلوهم يخدعونكم مرتين: مرة بتصوير الثورة على أنها نقمة، ومرة أخرى بدفعكم إلى أحضان معسكر الطواغيت بناء على الخدعة الأولى!!