بقلم : د. فيصل القاسم ... 03.06.2012
ككل الظواهر التي تجتاح مجتمعاتنا وتفرض نفسها علينا دون دراسة أو فحص أو تحليل يبدو أن ظاهرة البث الفضائي اقتحمت عالمنا العربي كما تقتحم السكين قطعة الزبد دون أن نتصدى لها على الأقل بالأقلام والعقول الفاحصة. ولا عجب، فكم من الظواهر الثقافية والإعلامية والاجتماعية وحتى الاقتصادية تغلغلت بين ظهرانينا دون أن نفكر يوماً بوضعها تحت المجهر لنتبين ضررها من نفعها. ولا أعتقد أنني بهذا الكلام أكشف عن مفاجأة كانت غائبة عن الأذهان، فمن شيم المجتمعات المتخلفة ألا تأبه بما هو أهم بكثير، فكيف إذن تنتبه إلى الظواهر الثقافية، فهذا ضرب من الكماليات خاصة إذا كان معظم الذين من المفترض أن يتولوا مهمة البحث والتحليل مجرد «أقلام بالأرطال» كما وصفهم نزار قباني.
وكم كنت أشعر بالسعادة والحزن في آن معاً وأنا أرى الصحفيين والباحثين الغربيين يتقاطرون على دولة قطر لدراسة ظاهرة قناة الجزيرة وتأثيرها على المجتمع العربي، فقد كان مبعث السعادة أن هناك ظاهرة عربية جديرة بالدراسة والتحليل، أما مبعث الحزن أن الاهتمام الغربي بظواهرنا الإعلامية الجديدة يفوق الاهتمام العربي بعشرات المرات مع العلم بأننا المعنيون بالأمر أكثر منهم. لقد كنت أندهش من ذلك الحرص الغربي على فهم تلك الظاهرة وتحليلها من جوانب عدة بينما كان معظم الصحفيين والباحثين العرب يرشقونها بالحجارة ويشيطنونها ويصمونها بكل الموبقات كما فعلوا دائماً مع كل الظواهر الجديدة وكأن الرد الوحيد المتوفر لدينا على المستجدات الثقافية والإعلامية هو سلاح الردح والقدح والذم والقصف العشوائي على مبدأ: «يا ربي تجي بعينو».
فبينما انبرى الدارسون والباحثون الغربيون يرصدون الإعلام العربي الجديد من خلال عملية نقد جادة ورصينة ومتعمقة ومهنية وبعيدة عن التجني والتسفيه كان من يسمون أنفسهم خبراء إعلاميين عرباً يشنون الحملة تلو الأخرى على كل قناة أو برنامج لا يروق لمن يدفع لهم راتبهم الشهري في تلك الصحيفة أو المجلة. وكم كنت ومازلت أشعر برغبة شديدة للضحك وأنا أقرأ التعليقات والانتقادات التي يكتبها بعض مدعي النقد الإعلامي في تناولهم لهذا البرنامج أو ذاك مع العلم أن مهنة النقد قد تكون من أخطر المهن الثقافية الحديثة نظراً للتأثير والدور الكبير الذي تلعبه الفضائيات في العصر الراهن. ولو كنت مكان وزارات الإعلام والثقافة العربية لدربت عشرات الصحفيين والباحثين كي يصبحوا نقاداً إعلاميين محترفين في وقت يمكن فيه للناقد الإعلامي أن يغدو ذا شأن ثقافي كبير في هذا العصر الفضائي الرهيب. ففي الوقت الذي لا يقرأ فيه الإنسان العربي رواية أو مسرحية أو ديواناً شعرياً واحداً في السنة مما يجعل دور الناقد الأدبي ثانوياً نراه يشاهد يومياً العديد من البرامج السياسية والموسيقية والثقافية. ولا شك أن هذا الكم الهائل من البرامج التي تقتحم بيوتنا يومياً بحاجة ماسة لمن يشرح أبعادها ويبين إيجابياتها وسلبياتها ويلفت انتباهنا إلى مخاطرها نظراً لنسبة الأمية الهائلة في المجتمع العربي حيث تزيد في بعض البلدان على سبعين بالمائة، ناهيك عن الأمية السياسية والثقافية المخيفة.
لكن بينما كنا ننتظر ظهور نقاد إعلاميين جادين ومختصين لا نجد أمامنا سوى الرداحين والشتامين المأجورين في معظم الصحف والمجلات العربية حتى لو امتلك بعضهم نوعاً من الثقافة والمعرفة. وغالباً ما يعتمد نقد الصحفيين العرب لهذا البرنامج أو ذاك على موقف المطبوعة التي يعملون فيها، فإذا كانت الجهة التي تمول تلك المطبوعة راضية عن ذلك البرنامج نرى مدعي النقد فيها يغدقون المديح والإطراء على البرنامج ويرفعونه إلى مصافي الروائع العالمية مع العلم أنه قد يكون بحاجة لعشرين عاماً على الأقل كي يصبح سخيفاً على اعتبار أنه ما زال يناضل للوصول إلى مرحلة السخف. وإذا كان النقاد يعملون في صحيفة تمولها جهة لها ثأر مع ذلك البرنامج فاعلم أنهم سينزلون به إلى أسفل السافلين وسيصبح مقدمة والقناة التي تبثه رجساً من عمل الشيطان.
ولعل أكثر ما يثير الحزن والأسف أن هناك صحفيين مثقفين تخصصوا في نقد البرامج العربية في بعض المجلات والجرائد، لكنهم بدلاً من إعمال ثقافتهم في تنوير القراء والمشاهدين يتحولون إلى رداحين وهدامين عمال على بطال إلى حد أنهم يتجنبون كتابة كلمة إيجابية يتيمة عن البرامج أو المقدمين المغضوب عليهم. ولا بد لمقالاتهم النقدية المزعومة أن تكون سلبية مائة في المائة كل الوقت. وهذا ما يجعلهم يفقدون مصداقيتهم في عين القارئ لأن ليس كل البرامج سيئة كل الوقت. فلا بد من أن يخطئ المقدم ذات مرة ويقدم برنامجاً جيداً من باب الضلال.
وكم ضحكت ذات مرة عندما قرأت مقالاً نقدياً لكاتب عربي كنت أعتبره رصيناً، لكن يبدو أن صاحبنا «النقدجي» فقد رصانته تماماً عندما بدأ يكتب في مجلة عربية مملوكة لجهة لا تحبذ بعض البرامج التلفزيونية السياسية العربية وتعتبرها معادية لها، فراح يدبج المقالة تلو الأخرى للنيل من برامج كان قد امتدحها وامتدح معديها ومقدميها في الماضي لا بل شارك فيها بشغف. إنه لأمر محزن جداً أن تقرأ مقالات لمثقفين كبار لا يستطيعون فيها حتى التعليق على بعض البرامج التلفزيونية بقليل من الحياد وكأنهم يخشون فقدان المائة دولار التي يجنونها من المجلة بمجرد إنصاف هذا البرنامج أو ذاك. ماذا تتوقع من العاملين في المجال الإعلامي إذن، أن يلتفتوا إلى أولئك المعلقين المفضوحين ويتعلموا من ملاحظاتهم أم أن يزدروهم أو يتندروا بهرائهم على سبيل التنكيت؟
لا عجب إذن أن ترى المشاهدين يزدادون تعلقاً بهذا البرنامج التلفزيوني أو ذاك بعد قراءتهم المقالات التي ينحتها النقاد التلفزيونيون العرب المزعومون. لماذا؟ لأن الناقد لا يحترم مهنته أبداً على عكس ما يفعله نظراؤه في الغرب، فبينما يسخر المشاهد ممن يسمون أنفسهم معلقين تلفزيونيين عرباً ولا يأخذ برأيهم أبداً في تقييمه لهذا العمل التلفزيوني أو ذاك نجد أن بإمكان ناقد تلفزيوني غربي أن يقضي على عمل مسرحي بأكمله بمجرد كتابة عمود بسيط في إحدى الصحف. وكم استطاع النقاد الغربيون أن يدمروا أعمالاً تلفزيونية ومسرحية بأقلامهم الرصينة. وكم كنت أندهش وأنا في لندن وأنا أرى المخرجين وأصحاب البرامج يتهافتون على الصحف في اليوم التالي لقراءة التعليقات التي كتبها المعلقون والنقاد عن أعمالهم كما لو كانت شهادات معتمدة.
إن العاملين في المجال الإعلامي يتوقون بكل جوارحهم لوجود نقاد حقيقيين ليس ليمتدحوهم ويغدقوا عليهم أمجاداً زائفة بل كي يساهموا في ارتقاء العمل بما يخدم الإعلاميين والجمهور على حد سواء. فلا أحد يدعي أنه يملك حقيقة العمل الإعلامي أبدا،ً بل إن كل من يعمل في هذا المجال أخطأ ويخطئ وسيخطئ وسيظل دائماً بحاجة لرأي المتابعين والنقاد. فما أحوج المعدين والمقدمين والصحفيين إلى نقاد أصيلين صادقين ليبينوا لهم مكامن الخلل إذا فشلوا ومكامن النجاح إذا أبلوا بلاء حسناً ويضيئون أمامهم الطريق خاصة أن كل إنسان بحاجة للنقد والتوجيه حتى لو وصل أعلى المراتب، فقد كان الكاتب المسرحي الألماني الشهير بيرتولت بريخت الذي كان لي شرف دراسة وإخراج بعض أعماله، يقول: «إنني يمكن أن أتعلم من طالب سنة أولى». والإعلامي الحقيقي هو الذي يتقبل النقد قبل المدح إذا كان فعلاً يريد الارتقاء بنفسه. وهناك مثل إنجليزي عظيم يقول: «إن الرضا عن الذات آفة النجاح».
متى يعلم المتطفلون على مهنة النقد الإعلامي أنهم يضرون بالعاملين في هذا المجال وبالشعوب في آن معاً من خلال تعهيرهم لحرفة النقد؟