بقلم : سهيل كيوان ... 07.06.2012
خالي مريض جدًا منذ سنتين، استأصلوا له رئة وبقي بواحدة، دخّن عليها منذ كان طفلا حتى تجاوز السبعين، ولم يثنه عن التدخين سوى ذلك المرض اللعين وملك الموت الذي زاره وربض على صدره أكثر من أسبوعين حسِبها ربع ساعة بعد استيقاظه من العملية، ورغم أن خالي قال لي مرات بأن الموت أرحم مما هو فيه الآن، وأنه يتمناه، إلا أنني لم أقنع بأن أحدًا يحب الموت مهما كان وضعه، فنافذة الأمل تبقى مفتوحة، خصوصًا إذا كان هذا الشخص مثل خالي الذي عشق الحياة كثيرًا...
هو يحبني جدًا وأكثر من بقية أبناء أخواته، ويحتفظ بصورة لي في جزدانه الشخصي منذ كنت في العاشرة من عمري، وأنا أحبه أكثر من أي قريب لي بعد والديّ، ولا أقاطعه أبدًا رغم أنه يعيش في قرية أخرى بعدما تشظت الأسرة منذ عام النكبة، فلا يمر أسبوع إلا وأزوره مرة أو أكثر وأجلس إلى جانب سريره.ما إن يراني داخلا إليه حتى يتهلل وجهه وينشرح صدره ويبتسم ويحاول رفع رأسه بصعوبة عن الوسادة رغم الألم والمرض الذي فتك بجسده النحيل، فأسرع وأقبّله وأدعوه للراحة..ولا يلبث أن يقول لي بأنه قرأ مقالة لي أو خبرًا كتبته أنا أو تقريرًا صحفيًا فهو متابع جيد لما أكتب...
أجلس وأصغي إلى قصصه منذ كان طفلا في عكا، عندما كان يذهب إلى السينما رغم اعتراض جدي القادم بأسرته إلى المدينة على خلفية شجار عائلي فهو من أصل قروي فلاحي، جدي دخل السينما مرة بعد إلحاح أبنائه وبناته، وفوجئ ببطل الفيلم يقبّل البطلة فرفع عكازه غاضبًا وصاح بهم أمام الجمهور....أتيتم بي إلى هنا لتشاهدوا قلة الحياء..يلا على البيت! بعدها صار خالي الطفل يذهب إلى سينما 'الجنينة' شمالي عكا خفية، يختلس ثمن التذكرة من دكان جدي الذي كان محاذيًا لجامع الجزار حتى عام النكبة.
لا يلبث خالي أن ينتقل في الحديث عن مغامراته عام ثمانية وأربعين وحتى الخمسينيات عندما هرب إلى الأردن وسُجن هناك ثم أعيد وسجن ثم هرب ثم أعيد، يعجبني في حديثه التفاصيل، فهو لا ينسى شيئًا حتى أسماء السجانين والضباط سواء كانوا عربًا أو يهودا، وأدهشني مرة عندما ذكر لي اسم رجل أمريكي من نيويورك شاركه غرفة اعتقاله، بأنه ما زال يحفظ اسمه واسم عائلته واسم الشارع الذي يعيش فيه ورقم البيت عن ظهر قلب بعد كل هذه العقود.
خالي كريم ومعطاء وصاحب نكتة، وكثيرًا ما قالوا لي:'أنت طالع لخالك لأن ثلثي الولد لخاله'أنا أشبهه بالفعل شكلا وروحًا، وبسبب هذه العلاقة الخاصة من المحبة بيننا تجنبت إزعاجه، وفي الفترات العصيبة من حياته وجدني إلى جانبه مثلما وجدته إلى جانبي دائمًا، يمازحني كصديق حميم.
في آخر زيارة له قال لي إن أفضل شيء حدث له خلال مرضه هي تلك الحورية التي رآها في منامه' لقد جاءت يا خالي'..
-من هي التي جاءت يا خالي؟
-الحورية يا خالي ..حورية عيناها لا أحلى ولا أجمل ....
-وهل استمتعت بها يا خال..؟
-أي نعم استمتعت يا خالي...كأنه حقيقي..منذ مرضي لم أستمتع كما استمتعت هذه المرّة...
-دخلت بها يا خال...؟
-أقول لك كأنه حقيقي...
-إذن فمصدر المتعة يا خالي هو المخ وليس الجسد...فأنت بلا شك وبسبب أمراضك والعملية الجراحية والأدوية الكثيرة (وبيني وبينك) بت عاجزًا...
-لا لا يا خالي...ثم يضحك ويقول 'رغم كل ما مر بخالك إلا أنه لم يخرب بعد...لقد كانت هذه الحورية في المنام امتحانًا لي..لا لم أخرب، شكرًا لهذه الحورية إنها رائعة فعلا'..فنضحك وتضحك زوجته العاجزة تمامًا والجالسة على طرف سرير آخر وهي تسمع للقصة وتقول:نيالها عليك الحورية، أبارك لك فيها....
خلال هذا يشتغل التلفزيون على فضائية المنار، وما لبث أن انتقل الخال إلى السياسة، قال لي كأنما بحياء..'لم أصدق أنك أنت الذي كتبت هذا الكلام...لقد قرأت مقالا لك..أنا لا أصدق أنك أنت الرجل الوطني الذي تربى على القومية أن تتحول ضد المقاومة وجبهة الممانعة...
وهذا سبب إضافي يا خالي كي أكره النظام السوري أكثر وأكثر، هذا النظام الذي يرتكب كل ألوان الجرائم ثم يرتدي ثوب الضحية، يقتل شعبه حتى الأطفال منهم ثم يحكي عن الممانعة ومقاومة الاحتلال والمؤامرات الكونية ضده....
-ولكنه بدأ بالإصلاحات ويجب إعطاؤه فرصة، ما الذي تريدونه منه؟...
-وهل تسمي هذا المكياج بعد كل هذه الجرائم..إصلاحات!
صرت أكره هذا النظام أكثر بسبب خبثه وقدرته على التلون والخداع وابتزاز مشاعر الناس الطيبين باسم المشاعر القومية، خصوصًا وقد صار خالي ينظر إليّ بعين غير راضية وبعتاب كأنني خيبت ظنه، خالي الذي أحبّه ويحبني، ما زال مخدوعًا بهذا النظام المجرم، قال لي معاتبا:أكتب ما تشاء ولكن ابتعد عن بشار الأسد فهناك مؤامرة كونية ضده.....
-هل تعلم يا خالي أن وزيرًا بريطانيًا استقال من منصبه لأنه كذب بعد ارتكاب مخالفة سير إذ ادعى أن زوجته هي التي كانت تقود السيارة، عندما افتضح أمره قدم استقالته، في الدول التي تحترم نفسها يستقيلون يا خالي بسبب مخالفة سير وليس بعد التسبب بمقتل خمسة عشر ألف مواطن ثم يبثون صورًا ليثبتوا أن الحياة تمضي طبيعية في شوارع وأحياء المدن...خالي الغالي..لا أشك بمشاعرك القومية والوطنية ولكن على هذا النظام الدموي أن ينقلع، وهذا أقل ما يمكن أن نقوله لنظام ارتكب كل هذا الكم الهائل من الجرائم ضد أبناء شعبه......